الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَعْشُ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: يُعْرِضْ، قالَهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ، والفَرّاءُ، والزَّجّاجُ. والثّانِي: يَعْمَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، وبِهِ قالَ عَطاءٌ، وابْنُ زَيْدٍ. والثّالِثُ: أنَّهُ البَصَرُ الضَّعِيفُ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. وقالَ أبُوعُبَيْدَةَ: تُظْلِمْ عَيْنُهُ عَنْهُ. وقالَ الفَرّاءُ: مَن قَرَأ: "يَعْشُ"، فَمَعْناهُ: يُعْرِضْ، ومِن نَصَبَ الشِّينَ، أرادَ: يَعْمَ عَنْهُ؛ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لا أرى القَوْلَ إلّا قَوْلَ أبِي عُبَيْدَةَ، ولَمْ نَرَ أحَدًا يُجِيزُ "عَشَوْتُ عَنِ الشَّيْءِ": أعْرَضْتُ عَنْهُ، إنَّما يُقالُ: "تَعاشَيْتُ عَنْ كَذا"، أيْ: تَغافَلْتُ عَنْهُ، كَأنِّي لَمْ أرَهُ، ومِثْلُهُ: تَعامَيْتُ، والعَرَبُ تَقُولُ: "عَشَوْتُ إلى النّارِ": إذا اسْتَدْلَلْتُ إلَيْها بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ، قالَ الحُطَيْئَةُ: ؎ مَتى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ تَجِدْ خَيْرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ وَمِنهُ حَدِيثُ ابْنِ المُسَيَّبِ: « "أنَّ إحْدى عَيْنَيْهِ ذَهَبَتْ، وهو يَعْشُو بِالأُخْرى"،» أيْ: يُبْصِرُ بِها بَصَرًا ضَعِيفًا. قالَ المُفَسِّرُونَ: "وَمَن يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ" فَلَمْ يَخَفْ عِقابَهُ ولَمْ يَلْتَفِتْ إلى كَلامِهِ "نُقَيِّضْ لَهُ" أيْ: نُسَبِّبْ لَهُ "شَيْطانًا" فَنَجْعَلْ ذَلِكَ جَزاءَهُ "فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ" لا يُفارِقُهُ. (p-٣١٦)﴿وَإنَّهُمْ﴾ يَعْنِي الشَّياطِينَ ﴿لَيَصُدُّونَهُمْ﴾ يَعْنِي الكافِرِينَ، أيْ: يَمْنَعُونَهم عَنْ سَبِيلِ الهُدى؛ وإنَّما جَمَعَ، لِأنَّ "مَن" في مَوْضِعِ جَمْعٍ، ﴿وَيَحْسَبُونَ﴾ يَعْنِي كُفّارَ بَنِي آدَمَ ﴿أنَّهُمْ﴾ عَلى هُدًى. ﴿حَتّى إذا جاءَنا﴾ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: "جاءَنا" واحِدٌ، يَعْنِي الكافِرَ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: "جاءانا" بِألِفَيْنِ عَلى التَّثْنِيَةِ، يَعْنُونَ الكافِرَ وشَيْطانَهُ. وجاءَ في التَّفْسِيرِ أنَّهُما يُجْعَلانِ يَوْمَ البَعْثِ في سِلْسِلَةٍ، فَلا يَفْتَرِقانِ حَتّى يُصَيِّرَهُما اللَّهُ إلى النّارِ، ﴿قالَ﴾ الكافِرُ لِلشَّيْطانِ: ﴿يا لَيْتَ بَيْنِي وبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ﴾ أيْ: بُعْدَ ما بَيْنَ المَشْرِقَيْنِ؛ وفِيهِما قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُما مَشْرِقُ الشَّمْسِ في أقْصَرِ يَوْمٍ في السَّنَةِ، ومَشْرِقُها في أطْوَلِ يَوْمٍ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ، ومُقاتِلٌ. والثّانِي: أنَّهُ أرادَ المَشْرِقَ والمَغْرِبَ، فَغَلَّبَ ذِكْرَ المَشْرِقِ، كَما قالُوا: سُنَّةُ العُمَرَيْنِ، يُرِيدُونَ: أبا بَكْرٍ وعُمَرَ، وأنْشَدُوا مِن ذَلِكَ: ؎ أخَذْنا بِآفاقِ السَّماءِ عَلَيْكُمُ ∗∗∗ لَنا قَمَراها والنُّجُومُ الطَّوالِعُ يُرِيدُ: الشَّمْسَ والقَمَرَ؛ وأنْشَدُوا: ؎ فَبَصْرَةُ الأزْدِ مِنّا والعِراقُ لَنا ∗∗∗ والمَوْصِلانِ ومِنّا مِصْرُ والحَرَمُ يُرِيدُ: الجَزِيرَةَ والمَوْصِلَ، [وَهَذا اخْتِيارُ الفَرّاءِ، والزَّجّاجِ] . (p-٣١٧)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبِئْسَ القَرِينُ﴾ أيْ: أنْتَ أيُّها الشَّيْطانُ. ويَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَوْمَئِذٍ لِلْكُفّارِ: ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ﴾ أيْ: أشْرَكْتُمْ في الدُّنْيا ﴿أنَّكم في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ أيْ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الشَّرِكَةُ في العَذابِ، لِأنَّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُ الحَظَّ الأوْفَرَ. قالَ المُبَرِّدُ: مُنِعُوا رُوحَ التَّأسِّي، لِأنَّ التَّأسِّيَ يُسَهِّلُ المُصِيبَةَ، وأنْشَدَ لِلْخَنْساءِ أُخْتِ صَخْرِ بْنِ مالِكٍ في هَذا المَعْنى ؎ ولَوْلا كَثْرَةُ الباكِينَ حَوْلِي ∗∗∗ عَلى إخْوانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي ؎ وما يَبْكُونَ مِثْلَ أخِي ولَكِنْ ∗∗∗ أُعَزِّي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِّي وَقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: "إنَّكُمْ" بِكَسْرِ الألِفِ. ثُمَّ أخْبَرَ عَنْهم بِما سَبَقَ لَهم مِنَ الشَّقاوَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَأنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾ الآيَةُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب