الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الإثْمِ﴾ وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "كَبِيرَ الإثْمِ" عَلى التَّوْحِيدِ مِن غَيْرِ ألِفٍ، والباقُونَ بِألِفٍ. وقَدْ شَرَحْنا الكَبائِرَ في سُورَةِ [النِّساءِ: ٣١] . وفي المُرادِ بِالفَواحِشِ هاهُنا قَوْلانِ. أحَدُهُما: الزِّنا. والثّانِي: مُوجِباتُ الحُدُودِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا ما غَضِبُوا هم يَغْفِرُونَ﴾ أيْ: يَعْفُونَ عَمَّنْ ظَلَمَهم (p-٢٩١)طَلَبًا لِثَوابِ اللَّهِ تَعالى.
﴿والَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أيْ: أجابُوهُ فِيما دَعاهم إلَيْهِ.
﴿وَأمْرُهم شُورى بَيْنَهُمْ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ: يَتَشاوَرُونَ فِيهِ [بَيْنَهُمْ] . وقالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى أنَّهم لا يَنْفَرِدُونَ بِرَأْيٍ حَتّى يَجْتَمِعُوا عَلَيْهِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ اخْتَلَفُوا في [هَذا] البَغْيِ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ بَغْيُ الكُفّارِ عَلى المُسْلِمِينَ. قالَ عَطاءٌ: هُمُ المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أخْرَجَهُمُ الكُفّارُ مِن مَكَّةَ وبَغَوْا عَلَيْهِمْ، ثُمَّ مَكَّنَهُمُ اللَّهُ مِنهم فانْتَصَرُوا. وقالَ زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ: كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِرْقَتَيْنِ بِمَكَّةَ، فِرْقَةً كانَتْ تُؤْذى فَتَعْفُو عَنِ المُشْرِكِينَ، وفِرْقَةً كانَتْ تُؤْذى فَتَنْتَصِرُ، فَأثْنى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، فَقالَ في الَّذِينَ لَمْ يَنْتَصِرُوا: ﴿وَإذا ما غَضِبُوا هم يَغْفِرُونَ﴾، وقالَ في المُنْتَصِرِينَ: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ أيْ: مِنَ المُشْرِكِينَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: ذَكَرَ المُهاجِرِينَ، وكانُوا صِنْفَيْنِ، صِنْفًا عَفا، و صِنْفًا انْتَصَرَ، فَقالَ: ﴿وَإذا ما غَضِبُوا هم يَغْفِرُونَ﴾، فَبَدَأ بِهِمْ، وقالَ في المُنْتَصِرِينَ: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ (p-٢٩٢)البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ أيْ: مِنَ المُشْرِكِينَ؛ وقالَ: ﴿والَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ﴾: إلى قَوْلِهِ: ﴿ "يُنْفِقُونَ﴾ وهُمُ الأنْصارُ؛ ثُمَّ ذَكَرَ الصِّنْفَ الثّالِثَ فَقالَ: ﴿والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هم يَنْتَصِرُونَ﴾ مِنَ المُشْرِكِينَ.
والثّانِي: أنَّهُ بَغْيُ المُسْلِمِينَ عَلى المُسْلِمِينَ خاصَّةً.
والثّالِثُ: أنَّهُ عامٌّ في جَمِيعِ البُغاةِ، سَواءٌ كانُوا مُسْلِمِينَ أوْ كافِرِينَ.
* فَصْلٌ
واخْتَلَفَ في هَذِهِ الآيَةِ عُلَماءُ النّاسِخِ والمَنسُوخِ، فَذَهَبَ بَعْضُ القائِلِينَ بِأنَّها في المُشْرِكِينَ إلى أنَّها مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، فَكَأنَّهم يُشِيرُونَ إلى أنَّها أثْبَتَتِ الِانْتِصارَ بَعْدَ بَغْيِ المُشْرِكِينَ، فَلَمّا جازَ لَنا أنْ نَبْدَأهم بِالقِتالِ، دَلَّ عَلى أنَّها مَنسُوخَةٌ. ولِلْقائِلِينَ بِأنَّها في المُسْلِمِينَ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وغَفَرَ﴾ [الشُّورى: ٤٣] فَكَأنَّها نَبَّهَتْ عَلى مَدْحِ المُنْتَصِرِ، ثُمَّ أعْلَمَنا أنَّ الصَّبْرَ والغُفْرانَ أمْدَحُ، فَبانَ وجْهُ النَّسْخِ.
والثّانِي: أنَّها مُحْكَمَةٌ، لِأنَّ الصَّبْرَ والغُفْرانَ فَضِيلَةٌ، والِانْتِصارَ مُباحٌ، فَعَلى هَذا تَكُونُ مُحْكَمَةٌ، [وَهُوَ الأصَحُّ] .
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ الجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الآيَةِ -وَظاهِرُها مَدْحُ المُنْتَصِرِ- وبَيْنَ آياتِ الحَثِّ عَلى العَفْوِ؟ فَعَنْهُ ثَلاثَةُ أجْوِبَةٍ.
أحَدُها: أنَّهُ انْتِصارُ المُسْلِمِينَ مِنَ الكافِرِينَ، وتِلْكَ رُتْبَةُ الجِهادِ كَما ذَكَرْنا عَنْ عَطاءٍ.
(p-٢٩٣)والثّانِي: أنَّ المُنْتَصِرَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ فِعْلٍ أُبِيحَ لَهُ، وإنْ كانَ العَفْوُ أفْضَلَ، ومَن لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الشَّرْعِ بِفِعْلِهِ، حَسُنَ مَدْحُهُ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ، صِنْفٌ يَعْفُو، فَبَدَأ بِذِكْرِهِ، وصِنْفٌ يَنْتَصِرُ.
والثّالِثُ: أنَّهُ إذا بَغى عَلى المُؤْمِنِ فاسِقٌ، فَلِأنَّ لَهُ اجْتِراءَ الفُسّاقِ عَلَيْهِ، ولَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ، فَيَنْبَغِي لَهُ أنْ يَكْسِرَ شَوْكَةَ العُصاةِ لِتَكُونَ العِزَّةُ لِأهْلِ الدِّينِ. قالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: كانُوا يَكْرَهُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يُذِلُّوا أنْفُسَهم فَيَجْتَرِئَ عَلَيْهِمُ الفُسّاقُ، فَإذا قَدَرُوا عَفَوا. وقالَ القاضِي أبُو يَعْلى: هَذِهِ الآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلى مَن تَعَدّى وأصَرَّ عَلى ذَلِكَ، وآياتُ العَفْوِ مَحْمُولَةٌ عَلى أنْ يَكُونَ الجانِي نادِمًا.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلُها﴾ قالَ مُجاهِدٌ والسُّدِّيُّ: هو جَوابُ القَبِيحِ، إذا قالَ لَهُ كَلِمَةَ إجابَةٍ بِمِثْلِها مِن غَيْرِ أنْ يَعْتَدِيَ. وقالَ مُقاتِلٌ: هَذا في القِصاصِ في الجِراحاتِ والدِّماءِ.
﴿فَمَن عَفا﴾ فَلَمْ يَقْتَصَّ ﴿وَأصْلَحَ﴾ العَمَلَ ﴿فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ يَعْنِي مَن بَدَأ بِالظُّلْمِ. وإنَّما سَمّى المُجازاةَ سَيِّئَةً، لِما بَيَّنّا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البَقَرَةِ: ١٩٤] . قالَ الحَسَنُ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ نادى مُنادٍ: لِيَقُمْ مَن كانَ أجْرُهُ عَلى اللَّهِ، فَلا يَقُومُ إلّا مَن عَفا.
﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ﴾ أيْ: بَعْدَ ظُلْمِ الظّالِمِ إيّاهُ؛ والمَصْدَرُ هاهُنا مُضافٌ إلى المَفْعُولِ، ونَظِيرُهُ: ﴿مِن دُعاءِ الخَيْرِ﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٩] و ﴿بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ﴾ [ص: ٢٤]، ﴿فَأُولَئِكَ﴾ يَعْنِي المُنْتَصِرِينَ ﴿ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ﴾ أيْ: مِن طَرِيقٍ إلى لَوْمٍ ولا حَدٍّ، ﴿إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ﴾ أيْ: يَبْتَدِؤُونَ بِالظُّلْمِ ﴿وَيَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ﴾ أيْ: يَعْمَلُونَ فِيها بِالمَعاصِي.
(p-٢٩٤)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمَن صَبَرَ﴾ فَلَمْ يَنْتَصِرْ ﴿وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ﴾ الصَّبْرَ والتَّجاوُزَ ﴿لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ﴾ وقَدْ شَرَحْناهُ في [آلِ عِمْرانَ: ١٨٦] .
{"ayahs_start":37,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ یَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰۤىِٕرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَ ٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا۟ هُمۡ یَغۡفِرُونَ","وَٱلَّذِینَ ٱسۡتَجَابُوا۟ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَیۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ","وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡیُ هُمۡ یَنتَصِرُونَ","وَجَزَ ٰۤؤُا۟ سَیِّئَةࣲ سَیِّئَةࣱ مِّثۡلُهَاۖ فَمَنۡ عَفَا وَأَصۡلَحَ فَأَجۡرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ","وَلَمَنِ ٱنتَصَرَ بَعۡدَ ظُلۡمِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَا عَلَیۡهِم مِّن سَبِیلٍ","إِنَّمَا ٱلسَّبِیلُ عَلَى ٱلَّذِینَ یَظۡلِمُونَ ٱلنَّاسَ وَیَبۡغُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ بِغَیۡرِ ٱلۡحَقِّۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَ ٰلِكَ لَمِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ"],"ayah":"وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡیُ هُمۡ یَنتَصِرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق