الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلا﴾ "الطَّوْلُ": الغِنى والسِّعَةُ في قَوْلِ الجَماعَةِ. و"المُحْصَناتُ": الحَرائِرُ، قالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى: مَن لَمْ يَقْدِرْ عَلى مَهْرِ (p-٥٦)الحُرَّةِ، يُقالُ: قَدْ طالَ فَلانٌ طَوْلًا عَلى فُلانِ، أيْ: كانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْهِ في القُدْرَةِ. والمُرادُ بِالفَتَياتِ هاهُنا: المَمْلُوكاتِ، يُقالُ لِلْأمَةِ: فَتاةٌ، ولِلْعَبْدِ: فَتًى، وقَدْ سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ مَن لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ. قَرَأتُ عَلى شَيْخِنا الإمامِ أبِي مَنصُورٍ اللُّغَوِيِّ قالَ: المُتَفَتِّيَةُ: الفَتاةُ والمُراهِقَةُ، ويُقالُ لِلْجارِيَةِ الحَدَثَةُ: فَتاةٌ، ولِلْغُلامِ: فَتًى. قالَ القُتَيْبِيُّ: ولَيْسَ الفَتى بِمَعْنى: الشّابِّ والحَدَثِ، إنَّما هو بِمَعْنى: الكامِلُ الجَزْلُ مِنَ الرِّجالِ. فَأمّا ذِكْرُ الأيْمانِ، فَشَرْطٌ في إباحَتِهِنَّ، ولا يَجُوزُ نِكاحُ الأمَةِ الكِتابِيَّةِ، هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِكُمْ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: اعْمَلُوا عَلى ظاهِرِكم في الإيمانِ، فَإنَّكم مُتَعَبِّدُونَ بِما ظَهَرَ مِن بَعْضِكم لِبَعْضٍ. قالَ: وفي قَوْلِهِ: ﴿بَعْضُكم مِن بَعْضٍ﴾ وجْهانِ. (p-٥٧)أحَدُهُما: أنَّهُ أرادَ النَّسَبَ، أيْ: كُلُّكم ولَدُ آَدَمَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: دِينُكم واحِدٌ، لِأنَّهُ ذَكَرَ هاهُنا: المُؤْمِناتِ. وإنَّما قِيلَ لَهُمْ: ذَلِكَ، لِأنَّ العَرَبَ كانَتْ تَطْعَنُ في الأنْسابِ، وتَفْخَرُ بِالأحْسابِ، وتُسَمِّي ابْنَ الأمَةِ: الهَجِينُ، فَأعْلَمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّ أمْرَ العَبِيدِ وغَيْرِهِمْ مُسْتَوٍ في بابِ الإيمانِ، وإنَّما كَرَّهَ التَّزْوِيجَ بِالأمَةِ، وحَرَّمَ إذا وجَدَ إلى الحُرَّةِ سَبِيلًا، لِأنَّ ولَدَ الأمَةِ مِنَ الحُرِّ يَصِيرُونَ رَقِيقًا، ولِأنَّ الأمَةَ مُمْتَهَنَةً في عِشْرَةِ الرِّجالِ، وذَلِكَ يَشُقُّ عَلى الزَّوْجِ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: ومَعْنى الآَيَةِ: كُلُّكم بَنُو آَدَمَ، فَلا يَتَداخَلُكم شُمُوخٌ وأنَفَةٌ مِن تَزَوُّجِ الإماءِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. وَقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: في الكَلامِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ [المُؤْمِناتِ]، فَلْيَنْكِحْ بَعْضُكم مِن بَعْضٍ، أيْ: لِيَنْكِحْ هَذا فَتاةَ هَذا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فانْكِحُوهُنَّ﴾ يَعْنِي: الإماءُ ﴿ (بِإذْنِ أهْلِهِنَّ ﴾، أيْ: سادَتِهِنَّ. و"الأُجُورُ": المُهُورُ. وَفِي قَوْلِهِ ﴿بِالمَعْرُوفِ﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ مُقَدَّمٌ في المَعْنى، فَتَقْدِيرُهُ: انْكِحُوهُنَّ بِإذِنِّ أهْلِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ، أيْ: بِالنِّكاحِ الصَّحِيحِ ﴿وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ . والثّانِي: أنَّ المَعْنى: وآَتَوْهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ، كَمُهُورِ أمْثالِهِنَّ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: "مُحْصَناتٍ": عَفائِفَ غَيْرَ زَوانٍ ﴿وَلا مُتَّخِذاتِ أخْدانٍ﴾ يَعْنِي: أخِلّاءٌ كانَ الجاهِلِيَّةُ يُحْرِّمُونَ ما ظَهَرَ مِنِ الزِّنى، ويَسْتَحِلُّونَ ما خَفِيَ. وقالَ في رِوايَةٍ أُخْرى: "المُسافِحاتُ": المُعْلِناتُ بِالزِّنى. و"المُتَّخِذاتِ أخْدانًا": ذاتُ الخَلِيلِ (p-٥٨)الواحِدُ. وقالَ غَيْرُهُ: كانَتِ المَرْأةُ تَتَّخِذُ صَدِيقًا تَزْنِي مَعَهُ، ولا تَزْنِي مَعَ غَيْرِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا أُحْصِنَّ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٍ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "أُحْصِنَّ" مَضْمُومَةُ الألِفِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ، والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ: بِفَتْحِ الألِفِ، والصّادِ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مَن قَرَأ بِالفَتْحِ، أرادَ: أسْلَمْنَ، فَصِرْنَ مَمْنُوعاتِ الفُرُوجِ عَنِ الحَرامِ بِالإسْلامِ، ومَن قَرَأ بِالضَّمِّ، أرادَ: فَإذا تَزَوَّجْنَ، فَصِرْنَ مَمْنُوعاتِ الفُرُوجِ مِنَ الحَرامِ بِالأزْواجِ. فَأمّا "الفاحِشَةُ"، فَهي الزِّنى، و"المُحْصَناتُ": الحَرائِرُ، و"العَذابُ": الحَدُّ. قالَ القاضِي أبُو يَعْلى: ولَيْسَ الإسْلامُ والتَّزْوِيجُ شَرَطًا في إيجابِ الحَدِّ عَلى الأمَةِ، بَلْ يَجِبُ وإنْ عُدِما، وإنَّما شَرْطُ الإحْصانِ في الحَدِّ، لِئَلّا يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّ عَلَيْها نِصْفَ ما عَلى الحُرَّةِ إذا لَمْ تَكُنْ مُحَصَنَةً، وعَلَيْها مِثْلُ ما عَلى الحُرَّةِ إذا كانَتْ مُحْصَنَةً. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ﴾ الإشارَةُ إلى إباحَةِ تَزْوِيجِ الإماءِ، وفي "العَنَتِ" خَمْسَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ الزِّنى، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والشَّعْبِيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ، ومُقاتِلٌ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. والثّانِي: أنَّهُ الهَلاكُ، ذَكَرَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، والزَّجّاجُ. والثّالِثُ: لِقاءُ المَشَقَّةِ في مَحَبَّةِ الأمَةِ، حَكاهُ الزَّجّاجُ. والرّابِعُ: أنَّ العَنَتَ هاهُنا: الإثْمُ. والخامِسُ: أنَّهُ العُقُوبَةُ الَّتِي تُعْنِتُهُ، وهي الحَدُّ، ذَكَرَهُما ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ. قالَ القاضِي أبُو يَعْلى: وهَذِهِ الآَيَةُ تَدُلُّ عَلى إباحَةِ نِكاح ِ الإماءِ المُؤْمِناتِ بِشَرْطَيْنِ: أحَدُهُما: عَدَمُ طَوْلِ الحُرَّةِ. (p-٥٩)والثّانِي: خَوْفُ الزِّنى، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والشَّعْبِيِّ، وابْنِ جُبَيْرٍ، ومَسْرُوقٍ، ومَكْحُولٍ، وأحْمَدَ، ومالِكٍ، والشّافِعِيِّ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ، والحَسَنِ، وابْنِ المُسَيِّبِ، ومُجاهِدٍ، والزُّهْرِيِّ، قالُوا: يَنْكِحُ الأمَةَ، وإنْ كانَ مُوسِرًا، وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والجَماعَةُ: عَنْ نِكاحِ الإماءِ، وإنَّما نَدَبَ إلى الصَّبْرِ عَنْهُ، لِاسْتِرْقاقِ الأوْلادِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب