الباحث القرآني

(p-١٧٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ﴾ يَعْنِي القُرْآَنَ؛ وقَدْ ذَكَرْنا سَبَبَ نُزُولِها في أوَّلِ [يُوسُفَ] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كِتابًا مُتَشابِهًا﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنْ بَعْضَهُ يُشْبِهُ بَعْضًا في الآَيِ والحُرُوفِ، فالآَيَةُ تُشْبِهُ الآَيَةَ، والكَلِمَةُ تُشْبِهُ الكَلِمَةَ، والحَرْفُ يُشْبِهُ الحَرْفَ. والثّانِي: أنَّ بَعْضَهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا، فَلَيْسَ فِيهِ اخْتِلافٌ ولا تَناقُضٌ. وَإنَّما قِيلَ لَهُ: ﴿مَثانِيَ﴾ لِأنَّهُ كُرِّرَتْ فِيهِ القَصَصُ والفَرائِضُ والحُدُودُ والثَّوابُ والعِقابُ. فَإنْ قِيلَ: ما الحِكْمَةُ في تَكْرارِ القَصَصِ، والواحِدَةُ قَدْ كانَتْ تَكْفِي؟ فالجَوابُ: أنَّ وُفُودَ العَرَبِ كانَتْ تَرُدُّ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيُقْرِئُهُمُ المُسْلِمُونَ شَيْئًا مِنَ القُرْآَنِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كافِيًا لَهُمْ، وكانَ يَبْعَثُ إلى القَبائِلِ المُتَفَرِّقَةِ بِالسُّوَرِ المُخْتَلِفَةِ، فَلَوْ لَمْ تَكُنَ الأنْباءُ والقَصَصُ مُثَنّاةً مُكَرَّرَةً، لَوَقَعَتْ قِصَّةُ مُوسى إلى قَوْمٍ، وقِصَّةُ عِيسى إلى قَوْمٍ، وقِصَّةُ نُوحٍ إلى قَوْمٍ، فَأرادَ اللَّهُ تَعالى أنَّ يُشْهِرَ هَذِهِ القَصَصَ في أطْرافِ الأرْضِ ويُلْقِيَها إلى كُلِّ سَمْعٍ. فَأمّا فائِدَةُ تَكْرارِ الكَلامِ مِن جِنْسٍ واحِدٍ، كَقَوْلِهِ: " فَبِأيِّ آَلاءِ رَبِّكُما تَكْذِبانِ " [الرَّحْمَنِ]، وقَوْلُهُ: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ [الكافِرُونَ]، وقَوْلُهُ: ﴿أوْلى لَكَ فَأوْلى﴾ [القِيامَةِ: ٣٤، ٣٥] ﴿وَما أدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الِانْفِطارِ: ١٧، ١٨] فَسَنَذْكُرُها في سُورَةِ [الرَّحْمَنِ] عَزَّ وجَلَّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أيْ: تَأْخُذُهم (p-١٧٦)قَشْعَرِيرَةٌ، وهو تَغَيُّرٌ يَحْدُثُ في جِلْدِ الإنْسانِ مِنَ الوَجَلِ. ورَوى العَبّاسُ ابْنُ عَبْدِ المَطَّلِبِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: « "إذا اقْشَعَرَّ جِلْدُ العَبْدِ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ، تَحاتَّتْ ذُنُوبُهُ كَما يَتَحاتُّ عَنِ الشَّجَرَةِ اليابِسَةِ ورَقُها" .» وَفِي مَعْنى الآَيَةِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: تَقْشَعِرُّ مِن وعِيدِهِ، وتَلِينُ عِنْدَ وعْدِهِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. والثّانِي: تَقْشَعِرُّ مِنَ الخَوْفِ، وتَلِينُ مِنَ الرَّجاءِ. والثّالِثُ: تَقْشَعِرُّ الجُلُودُ لِإعْظامِهِ، وتَلِينُ عِنْدَ تِلاوَتِهِ، ذَكَرَهُما الماوَرْدِيُّ. وَقالَ بَعْضُ أهْلِ المَعانِي: مَفْعُولُ الذِّكْرِ في قَوْلِهِ: ﴿إلى ذِكْرِ اللَّهِ﴾ مَحْذُوفٌ، لِأنَّهُ مَعْلُومٌ؛ والمَعْنى: تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم إلى ذِكْرِ اللَّهِ الجَنَّةَ والثَّوابَ. قالَ قَتادَةُ: هَذا نَعْتُ أوْلِياءِ اللَّهِ، تَقْشَعِرُّ جُلُودُهم [وَتَلِينُ قُلُوبُهُمْ]، ولَمْ يَنْعِتْهم بِذَهابِ عُقُولِهِمْ والغَشَيانِ عَلَيْهِمْ، إنَّما هَذا في أهْلِ البِدَعِ، وهَذا مِنَ الشَّيْطانِ. وقَدْ رَوى أبُو حازِمٍ، قالَ: مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَجُلٍ ساقِطٍ مِن أهْلِ العِراقِ، فَقالَ: ما شَأْنُهُ؟ فَقالُوا: إنَّهُ إذا قُرِئَ عَليْهِ القُرْآَنُ يُصِيبُهُ هَذا، قالَ: إنّا لَنَخْشى اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، وما نَسْقُطُ. «وَقالَ عامِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: جِئْتُ أُبَيَّ، فَقالَ لِي: أيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: وجَدْتُ قَوْمًا، ما رَأيْتُ خَيْرًا مِنهم قَطُّ، يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَيُرْعِدُ واحِدُهم حَتّى يُغْشى عَلَيْهِ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَقَعَدْتُ مَعَهُمْ، فَقالَ: لا تَقْعُدْ مَعَهم بَعْدَها [أبَدًا]، قالَ: فَرَآَنِي (p-١٧٧)كَأنِّي لَمْ يَأْخُذْ ذَلِكَ فِيَّ، فَقالَ: رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتْلُو القُرْآَنَ، ورَأيْتُ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ يَتْلُوانِ القُرْآَنَ فَلا يُصِيبُهم هَذا مِن خَشْيَةِ اللَّهِ تَعالى، أفْتَرى أنَّهم أخْشى لِلَّهِ مِن أبِي بَكْرٍ وعُمَرَ؟ قالَ: فَرَأيْتُ ذَلِكَ كَذَلِكَ.» وقالَ عِكْرِمَةُ: سُئِلَتْ أسْماءُ بِنْتُ أبِي بَكْرٍ: هَلْ كانَ أحَدٌ مِنَ السَّلَفِ يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الخَوْفِ؟ قالَتْ: لا، ولَكِنَّهم كانُوا يَبْكُونَ. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَلَتُ لِجَدَّتَيْ أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ، كَيْفَ كانَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُونَ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآَنُ؟ قالَتْ: كانُوا كَما نَعَتَهُمُ اللَّهُ تَعالى، تَدْمَعُ أعْيُنُهم وتَقْشَعِرُّ جُلُودُهم. فَقُلْتُ لَها: إنَّ ناسًا اليَوْمَ إذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ القُرْآَنُ، خَرَّ أحَدُهم مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَقالَتْ: أُعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، وكانَ جَوابٌ يُرْعِدُ عِنْدَ الذِّكْرِ، فَقالَ لَهُ إبْراهِيمُ النَّخْعِيُّ: إنْ كُنْتَ تَمْلِكُهُ، فَما أُبالِي أنْ لا أعْتَدَّ بِكَ، وإنْ كُنْتَ لا تَمْلِكُهُ، فَقَدْ خالَفْتَ مَن كانَ قَبْلَكَ. (p-١٧٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ هُدى اللَّهِ﴾ في المُشارِ إلَيْهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ القُرْآَنُ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّانِي: أنَّهُ ما يَنْزِلُ بِالمُؤْمِنِينَ عِنْدَ تِلاوَةِ القُرْآَنِ مِنَ اقْشِعْرارِ الجُلُودِ عِنْدَ الوَعِيدِ، ولِينِها عِنْدَ الوَعْدِ، قالَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب