الباحث القرآني

(p-٩٦)سُورَةُ صَ وَيُقالُ لَها: سُورَةُ داوُدَ، وهي مَكِّيَّةٌ [كُلُّها] بِإجْماعِهِمْ فَأمّا سَبَبُ نُزُولِ أوَّلِها، فَرَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ «أنَّ قُرَيْشًا شَكَوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ إلى أبِي طالِبٍ، فَقالَ: يا ابْنَ أخِي، ما تُرِيدُ مِن قَوْمِكَ؟ فَقالَ: "يا عَمِّ، إنَّما أُرِيدُ مِنهم كَلِمَةً تَذِلُّ لَهم بِها العَرَبُ وتُؤَدِّي إلَيْهِمُ الجِزْيَةَ بِها العَجَمُ"، قالَ: كَلِمَةٌ؟ قالَ: "كَلِمَةٌ واحِدَةٌ"، قالَ: ما هِيَ؟ قالَ: "لا إلَهَ إلّا اللَّهُ"، فَقالُوا: أجْعَلَ الآَلِهَةَ إلَهًا واحِدًا؟! فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: ﴿ص والقُرْآنِ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنْ هَذا إلا اخْتِلاقٌ﴾» . (p-٩٧)واخْتَلَفُوا في مَعْنى "صَ" عَلى سَبْعَةِ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّهُ قَسَمٌ أقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، وهو مِن أسْمائِهِ، رَواهُ ابْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّهُ بِمَعْنى: صَدَقَ مُحَمَّدٌ، رَواهُ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: صَدَقَ اللَّهُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: مَعْناهُ: صادِقٌ فِيما وعَدَ. وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: الصّادِقُ اللَّهُ تَعالى. والرّابِعُ: أنَّهُ اسْمٌ مِن أسْماءِ القُرْآَنِ، أقْسَمَ اللَّهُ بِهِ، قالَهُ قَتادَةُ. والخامِسُ: أنَّهُ اسْمُ حَيَّةٍ رَأْسُها تَحْتَ العَرْشِ وذَنَبُها تَحْتَ الأرْضِ السُّفْلى، حَكاهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ، وقالَ: أظُنُّهُ عَنْ عِكْرِمَةَ. والسّادِسُ: أنَّهُ بِمَعْنى: حادِثِ القُرْآَنِ، أيِ: انْظُرْ فِيهِ، قالَهُ الحَسَنُ، وهَذا عَلى قِراءَةِ مَن كَسَرُوا، مِنهُمُ ابْنُ عَبّاسٍ، [والحَسَنُ]، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَيَكُونُ المَعْنى: صادِ بِعَمَلِكَ القُرْآَنُ، أيْ: عارَضَهُ. وقِيلَ: اعْرِضْهُ عَلى عَمَلِكَ، فانْظُرْ أيْنَ هو [مِنهُ] . والسّابِعُ: أنَّهُ بِمَعْنى: صادَ مُحَمَّدٌ قُلُوبَ الخَلْقِ واسْتَمالَها حَتّى آَمَنُوا بِهِ وأحَبُّوهُ، حَكاهُ الثَّعْلَبِيُّ، وهَذا عَلى قِراءَةِ مَن فَتَحَ، وهي قِراءَةُ أبِي رَجاءٍ، وأبِي الجَوْزاءِ، (p-٩٨)وَحَمِيدٍ، ومَحْبُوبٍ عَنْ أبِي عَمْرٍو. قالَ الزَّجّاجُ: والقِراءَةُ "صادْ" بِتَسْكِينِ الدّالِّ، لِأنَّها مِن حُرُوفِ التَّهَجِّي. وقَدْ قُرِئَتْ بِالفَتْحِ وبِالكَسْرِ؛ فَمَن فَتَحَها، فَعَلى ضَرْبَيْنِ. أحَدُهُما: لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ. والثّانِي: عَلى مَعْنى: أُتْلُ "صادْ"، ويَكُونُ [صادْ] اسْمًا لِلسُّورَةِ يَنْصَرِفُ؛ ومَن كَسَرَ، فَعَلى ضَرْبَيْنِ. أحَدُهُما: لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ أيْضًا. والثّانِي: عَلى مَعْنى: صادِ القُرْآَنُ بِعَمَلِكَ، مِن قَوْلِكَ: صادى يُصادِي: إذا قابَلَ وعادَلَ، يُقالُ: صادَيْتُهُ: إذا قابَلَتْهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذِي الذِّكْرِ﴾ في المُرادِ بِالذِّكْرِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّهُ الشَّرَفُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والسُّدِّيُّ. والثّانِي: البَيانُ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّالِثُ: التَّذْكِيرُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. فَإنْ قِيلَ: أيْنَ جَوابُ القَسَمِ بِقَوْلِهِ: "صَ والقُرْآَنِ ذِي الذَّكَرِ"؟ فَعَنْهُ خَمْسَةُ أجْوِبَةٍ. أحَدُها: أنْ "صَ" جَوابٌ لِقَوْلِهِ: "والقُرْآَنِ"، فَـ "صَ" في مَعْناها، كَقَوْلِكَ: وجَبَ واللَّهِ، نَزَلَ واللَّهِ، حُقٌّ واللَّهِ، قالَهُ الفَرّاءُ، وثَعْلَبُ. (p-٩٩)والثّانِي: أنَّ جَوابَ "صَ" قَوْلُهُ: "كَمْ أهْلَكْنا مَن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ"، ومَعْناهُ: لَكُمْ، فَلَمّا طالَ الكَلامُ، حُذِفَتِ اللّامُ، ومِثْلُهُ، ﴿والشَّمْسِ وضُحاها﴾ ﴿قَدْ أفْلَحَ﴾ [الشَّمْسِ: ١ و ٩]، فَإنَّ المَعْنى: لَقَدْ أفْلَحَ، غَيْرَ أنَّهُ لَمّا اعْتَرَضَ بَيْنَهُما كَلامٌ، تَبِعَهُ قَوْلُهُ: "قَدْ أفْلَحَ"، حَكاهُ الفَرّاءُ، وثَعْلَبٌ أيْضًا. والثّالِثُ: أنَّهُ قَوْلُهُ: "إنْ كُلٌّ إلّا كَذَّبَ الرُّسُلَ" [ص: ١٤]، حَكاهُ الأخْفَشُ. والرّابِعُ: أنَّهُ قَوْلُهُ: ﴿إنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أهْلِ النّارِ﴾ [ص: ٦٤]، قالَهُ الكِسائِيُّ، وقالَ الفَرّاءُ: لا نَجِدُهُ مُسْتَقِيمًا في العَرَبِيَّةِ، لِتَأخُّرِهِ جِدًّا عَنْ قَوْلِهِ: "والقُرْآَنُ" . والخامِسُ: أنَّ جَوابَهُ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: والقُرْآَنُ ذِي الذِّكْرِ ما الأمْرُ كَما يَقُولُ الكُفّارُ، ويَدُلُّ عَلى هَذا المَحْذُوفِ قَوْلُهُ: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ﴾، ذَكَرَهُ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وإلى نَحْوِهِ ذَهَبَ قَتادَةُ. والعِزَّةُ: الحَمِيَّةُ والتَّكَبُّرُ عَنِ الحَقِّ. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ العاصِ، وأبُو رَزِينٍ، وابْنُ يَعْمُرَ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو: "فِي غِرَّةٍ" بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ وراءٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ. والشِّقاقُ: الخِلافُ والعَداوَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقَدْ سَبَقَ بَيانُ الكَلِمَتَيْنِ مَشْرُوحًا [البَقَرَةِ: ٢٠٦، ١٣٨] . ثُمَّ خَوَّفَهم بِقَوْلِهِ: ﴿كَمْ أهْلَكْنا مِن قَبْلِهِمْ مِن قَرْنٍ﴾ يَعْنِي الأُمَمَ الخالِيَةَ ﴿فَنادَوْا﴾ عِنْدَ وُقُوعِ الهَلاكِ بِهِمْ. وفي هَذا النِّداءِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ الدُّعاءُ. والثّانِي: الِاسْتِغاثَةُ. (p-١٠٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلاتَ حِينَ مَناصٍ﴾ وقَرَأ الضَّحّاكُ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وابْنُ يَعْمُرَ: "وَلاتَ حِينَ" بِفَتْحِ التّاءِ ورَفْعِ النُّونِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَيْسَ حِينَ يَرَوْهُ فِرارٌ. وقالَ عَطاءٌ: في لُغَةِ أهْلِ اليَمَنِ "لاتَ" بِمَعْنى "لَيْسَ" . وقالَ وهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: هي بِالسُّرْيانِيَّةِ. وقالَ الفَرّاءُ: "لاتَ" بِمَعْنى "لَيْسَ"، والمَعْنى: لَيْسَ بِحِينِ فِرارٍ. ومِنَ القُرّاءِ مَن يَخْفِضُ "لاتَ"، والوَجْهُ النَّصْبُ، لِأنَّها في مَعْنى "لَيْسَ"، أنْشَدَنِي المُفَضَّلُ: ؎ تَذَكَّرَ حُبَّ لَيْلى لاتَ حِينًا وأضْحى الشَّيْبُ قَدْ قَطَعَ القَرِينا قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: كانَ الفَرّاءُ والكِسائِيُّ والخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ والأخْفَشُ وأبُو عُبَيْدَةَ يَذْهَبُونَ إلى أنَّ التّاءَ في قَوْلِهِ: "وَلاتَ" مُنْقَطِعَةٌ مِن "حِينَ" قالَ: وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الوَقْفُ عِنْدِي عَلى هَذا الحَرْفِ "وَلا"، والِابْتِداءِ "تَحِينُ" لِثَلاثِ حُجَجٍ. إحْداهُنَّ: أنَّ تَفْسِيرَ ابْنِ عَبّاسٍ يَشْهَدُ لَها، لِأنَّهُ قالَ: لَيْسَ حِينَ يَرَوْهُ فِرارٌ؛ فَقَدْ عَلِمَ أنْ "لَيْسَ" هي أُخْتُ "لا" وفي مَعْناها. والحُجَّةُ الثّانِيَةُ: أنّا لا نَجْدُ في شَيْءٍ مِن كَلامِ العَرَبِ "وَلاتَ"، إنَّما المَعْرُوفَةُ "لا" . والحُجَّةُ الثّالِثَةُ: أنَّ هَذِهِ التّاءَ، إنَّما وجَدْناها تَلْحَقُ مَعَ "حِينَ" ومَعَ "الآَنِ" ومَعَ الـ "أوانِ"، فَيَقُولُونَ: كانَ هَذا تَحِينَ كانَ ذَلِكَ، وكَذَلِكَ: "تَأوانَ"، ويُقالُ: اذْهَبْ تَلانَ، ومِنهُ قَوْلُ أبِي وجْزَةَ السَّعْدِيِّ: (p-١٠١) ؎ العاطِفُونَ تَحِينُ ما مِن عاطِفٍ ∗∗∗ والمُطْعِمُونَ زَمانَ ما مِن مُطْعِمِ وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ أنَّ مَعْنى هَذا البَيْتِ: "العاطِفُونَهُ" بِالهاءِ، ثُمَّ تَبْتَدِئُ: "حِينَ ما مِن عاطِفٍ"؛ قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: وهَذا غَلَطٌ، لِأنَّ الهاءَ إنَّما تُقْحَمُ عَلى النُّونِ في مَواضِعِ القَطْعِ والسُّكُونِ، فَأمّا مَعَ الِاتِّصالِ، فَإنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ. وقالَ عَلِيُّ بْنُ أحْمَدَ النَّيْسابُورِيَّ: النَّحْوِيُّونَ يَقُولُونَ في قَوْلِهِ: "وَلاتَ" هي "لا" زِيدَتْ فِيها التّاءُ، كَما قالُوا: ثُمَّ وثَمَّتْ، ورُبَّ ورُبَّتْ، وأصْلُها هاءٌ وُصِلَتْ بِـ "لا"، فَقالُوا: "لاهٍ"، فَلَمّا وصَلُوها، جَعَلُوها تاءً؛ والوَقْفُ عَلَيْها بِالتّاءِ عِنْدَ الزَّجّاجِ، وأبِي عَلِيٍّ، وعِنْدَ الكِسائِيِّ بِالهاءِ، وعِنْدَ أبِي عُبَيْدٍ الوَقْفُ عَلى "لا" . فَأمّا المَناصُ، فَهو الفِرارُ. قالَ الفَرّاءُ: النَّوْصُ في كَلامِ العَرَبِ: التَّأخُّرُ، والبَوْصُ: التَّقَدُّمُ، قالَ امْرُؤُ القَيْسِ: ؎ أمِن ذِكْرِ سَلْمى إذْ نَأتْكَ تَنُوصُ ∗∗∗ فَتَقْصُرُ عَنْها خُطْوَةً وتَبُوصُ (p-١٠٢)وَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المَناصُ: مَصْدَرُ ناصَّ يَنُوصُ، وهو المَنجى والفَوْزُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب