الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْراهِيمَ﴾ أيْ: مِن أهْلِ دِينِهِ ومِلَّتِهِ. والهاءُ في "شِيعَتِهِ" عائِدَةٌ عَلى نُوحٍ في قَوْلِ الأكْثَرِينَ؛ وقالَ ابْنُ السّائِبِ: تَعُودُ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ، واخْتارَهُ الفَرّاءُ. (p-٦٧)فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ مِن شِيعَتِهِ، وهو قَبْلَهُ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ مِثْلُ قَوْلِهِ: ﴿حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [يس: ٤١]، فَجَعَلَها ذُرِّيَّتَهم وقَدْ سَبَقَتْهُمْ، وقَدْ شَرَحْنا هَذا فِيما مَضى [يس: ٤١] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ جاءَ رَبَّهُ﴾ أيْ: صَدَقَ اللَّهُ وآَمَنَ بِهِ ﴿بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ مِنَ الشِّرْكِ وكُلُّ دَنَسٍ، وفِيهِ أقْوالٌ ذَكَرْناها في [الشُّعَراءِ: ٨٩] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ماذا تَعْبُدُونَ﴾؟ هَذا اسْتِفْهامُ تَوْبِيخٍ، كَأنَّهُ وبَّخَهم عَلى عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ. ﴿أإفْكًا﴾ أيْ: أتَأْفِكُونَ إفْكًا وتَعْبُدُونَ آَلِهَةً سِوى اللَّهِ؟! ﴿فَما ظَنُّكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ إذا لَقِيتُمُوهُ وقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ؟! كَأنَّهُ قالَ: فَما ظَنُّكم أنْ يَصْنَعَ بِكُمْ؟ ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً في النُّجُومِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: [أنَّهُ] نَظَرَ في عِلْمِ النُّجُومِ، وكانَ القَوْمُ يَتَعاطَوْنَ عِلْمَ النُّجُومِ، فَعامَلَهم مِن حَيْثُ هُمْ، وأراهم أنِّي أعْلَمُ مِن ذَلِكَ ما تَعْلَمُونَ، لِئَلّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ. قالَ ابْنُ المُسَيِّبِ: رَأى نَجْمًا طالِعًا، فَقالَ: إنِّي مَرِيضٌ غَدًا. والثّانِي: أنَّهُ نَظَرَ إلى النُّجُومِ، لا في عِلْمِها. فَإنْ قِيلَ: فَما كانَ مَقْصُودُهُ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ كانَ لَهم عِيدٌ، فَأرادَ التَّخَلُّفَ عَنْهم لِيَكِيدَ أصْناهُمْ، فاعْتَلَّ بِهَذا القَوْلِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنِّي سَقِيمٌ﴾ مِن مَعارِيضِ الكَلامِ. ثُمَّ فِيهِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّ مَعْناهُ: سَأسْقُمُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: أعْلَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ أنَّهُ يَمْتَحِنُهُ بِالسَّقَمِ إذا طَلَعَ نَجْمٌ يَعْرِفُهُ، فَلَمّا رَأى النَّجْمَ، عَلِمَ أنَّهُ سَيَسْقُمُ. (p-٦٨)والثّانِي: أنِّي سَقِيمُ القَلْبِ عَلَيْكم إذْ تَكَهَّنْتُمْ بِنُجُومٍ لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. والثّالِثُ: أنَّهُ سَقَمٌ لِعِلَّةٍ عَرَضَتْ لَهُ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. وذَكَرَ السُّدِّيُّ أنَّهُ خَرَجَ مَعَهم إلى يَوْمِ عِيدِهِمْ، فَلَمّا كانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، ألْقى نَفْسَهُ وقالَ: إنِّي سَقِيمٌ أشْتَكِي رِجْلِي، ﴿فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ ﴿فَراغَ إلى آلِهَتِهِمْ﴾ أيْ: مالَ إلَيْها -وَكانُوا قَدْ جَعَلُوا بَيْنَ يَدَيْها طَعامًا لِتُبارِكَ فِيهِ عَلى زَعْمِهِمْ- ﴿فَقالَ﴾ إبْراهِيمُ اسْتِهْزاءً بِها ﴿ألا تَأْكُلُونَ﴾؟ . وَقَوْلُهُ: ﴿ضَرْبًا بِاليَمِينِ﴾ في اليَمِينِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّها اليَدُ اليُمْنى، قالَهُ الضَّحّاكُ. (p-٦٩)والثّانِي: بِالقُوَّةِ والقُدْرَةِ، قالَهُ السُّدِّيُّ، والفَرّاءُ. والثّالِثُ: بِاليَمِينِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنهُ، وهي قَوْلُهُ: "وَتاللَّهِ لِأكِيدَنَّ أصْنامَكم " [الأنْبِياءِ: ٥٧]، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. قالَ الزَّجّاجُ: "ضَرْبًا" مَصْدَرٌ؛ والمَعْنى: فَمالَ عَلى الأصْنامِ يَضْرِبُها ضَرْبًا بِاليَمِينِ؛ وإنَّما قالَ: "عَلَيْهِمْ"، وهي أصْنامٌ، لِأنَّهم جَعَلُوها بِمَنزِلَةِ ما يُمَيِّزُ. ﴿فَأقْبَلُوا إلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ: "يَزُفُّونَ" بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ وتَشْدِيدِ الفاءِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ: "يَزُفُّونَ" بِرَفْعِ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ وتَشْدِيدِ الفاءِ. وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، والضَّحّاكُ: "يَزُفُّونَ" بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ وتَخْفِيفِ الفاءِ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو نَهْيِكٍ: "يَزُفُّونَ" بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الزّايِ وتَخْفِيفِ الفاءِ. قالَ الزَّجّاجُ: أعْرَبُ القِراءاتِ فَتْحُ الياءِ وتَشْدِيدُ الفاءِ، وأصْلُهُ مِن زَفِيفِ النَّعامِ، وهو ابْتِداءُ عَدُوُّ النَّعامِ، يُقالُ: زَفَّ النَّعامَ يَزِفُّ؛ وأمّا ضَمُّ الياءِ، فَمَعْناهُ: يَصِيرُونَ إلى الزَّفِيفِ، وأنْشَدُوا: ؎ [تَمَنّى حَصِينٌ أنْ يَسُودَ جِذاعَهُ] فَأضْحى حَصِينٌ قَدْ أذَلَّ وأقْهَرا أيْ: صارَ إلى القَهْرِ. وأمّا كَسْرُ الزّايِ مَعَ تَخْفِيفِ الفاءِ، فَهو مِن: وزُفَّ يَزُفُّ، بِمَعْنى أسْرَعَ يُسْرِعُ، ولَمْ يَعْرِفْهُ الكِسائِيُّ ولا الفَرّاءُ، وعَرَفَهُ غَيْرُهُما. (p-٧٠)قالَ المُفَسِّرُونَ: بَلَّغَهم ما صَنَعَ إبْراهِيمُ، فَأسْرَعُوا، فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ، قالَ لَهم مُحْتَجًّا عَلَيْهِمْ: ﴿أتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ﴾ بِأيْدِيكم ﴿واللَّهُ خَلَقَكم وما تَعْمَلُونَ﴾؟!، قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: في "ما" وجْهانِ. أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ بِمَعْنى المَصْدَرِ، فَيَكُونُ المَعْنى: واللَّهُ خَلَقَكم و[عَمَلَكم. والثّانِي: أنْ تَكُونَ بِمَعْنى "الَّذِي"، فَيَكُونُ المَعْنى: واللَّهُ خَلَقَكُمْ] وخَلْقَ الَّذِي تَعْمَلُونَهُ بِأيْدِيكم مِنَ الأصْنامِ؛ وفي هَذِهِ الآَيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ أفْعالَ العِبادِ مَخْلُوقَةٌ [لِلَّهِ] . فَلَمّا لَزِمَتْهُمُ الحُجَّةُ ﴿قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا﴾ وقَدْ شَرَحْنا قِصَّتَهُ في سُورَةِ [الأنْبِياءِ: ٥٢ -٧٤]، وبَيَّنّا مَعْنى الجَحِيمِ في [البَقَرَةِ: ١١٩]، والكَيْدِ الَّذِي أرادُوا بِهِ: إحْراقَهُ. وَمَعْنى قَوْلِهِ: ﴿فَجَعَلْناهُمُ الأسْفَلِينَ﴾ أنَّ إبْراهِيمَ عَلاهم بِالحُجَّةِ حَيْثُ سَلَّمَهُ اللَّهُ مِن كَيْدِهِمْ وحَلَّ الهَلاكُ بِهِمْ. ﴿وَقالَ﴾ يَعْنِي إبْراهِيمَ ﴿إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي﴾ في هَذا الذِّهابِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ ذاهِبُ حَقِيقَةً، وفي وقْتِ قَوْلِهِ هَذا قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ حِينَ أرادَ هِجْرَةَ قَوْمِهِ؛ فالمَعْنى: إنِّي ذاهِبٌ إلى حَيْثُ أمَرَنِي رَبِّي عَزَّ وجَلَّ ﴿سَيَهْدِينِ﴾ إلى حَيْثُ أمَرَنِي، وهو الشّامُ، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: حِينَ أُلْقِيَ في النّارِ، قالَهُ سُلَيْمانُ بْنُ صُرَدٍ؛ فَعَلى هَذا، في المَعْنى قَوْلانِ. أحَدُهُما: ذاهِبٌ إلى اللَّهِ بِالمَوْتِ، (p-٧١)سَيَهْدِينِ إلى الجَنَّةِ. والثّانِي: [ذاهِبٌ] إلى ما قَضى [بِهِ] رَبِّي، سَيَهْدِينِ إلى الخَلاصِ مِنَ النّارِ. والقَوْلُ الثّانِي: إنِّي ذاهِبٌ إلى رَبِّي بِقَلْبِي وعَمَلِي ونِيَّتِي، قالَهُ قَتادَةُ. فَلَمّا قَدِمَ الأرْضَ المُقَدَّسَةَ، سَألَ رَبَّهُ الوَلَدَ فَقالَ: ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينَ﴾ أيْ: ولَدًا صالِحًا مِنَ الصّالِحِينَ، فاجْتَزَأ بِما ذَكَرَ عَمّا تَرَكَ، ومِثْلُهُ: ﴿وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ﴾ [يُوسُفَ: ٢٠]، فاسْتَجابَ لَهُ، وهو قَوْلُهُ: ﴿فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ إسْحاقُ. والثّانِي: أنَّهُ إسْماعِيلُ. قالَ الزَّجّاجُ. هَذِهِ البِشارَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ مُبَشَّرٌ بِابْنٍ ذِكْرٍ، وأنَّهُ يَبْقى حَتّى يَنْتَهِيَ في السِّنِّ ويُوَصَفُ بِالحِلْمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب