الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ﴾ فِيهِمْ قَوْلانِ. أحَدُهُما: الإنْسُ عَلى الشَّياطِينِ. والثّانِي: الأتْباعُ عَلى الرُّؤَساءِ ﴿يَتَساءَلُونَ﴾ تَساؤُلُ تَوْبِيخٍ وتَأْنِيبٍ ولَوْمٍ، فَيَقُولُ الأتْباعُ لِلرُّؤَساءِ: [لِمَ] غَرَّرْتُمُونا؟ ويَقُولُ الرُّؤَساءُ: لِمَ قَبِلْتُمْ مِنّا؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿قالُوا﴾ يُعْنى الأتْباعُ لِلْمَتْبُوعِينَ ﴿إنَّكم كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ اليَمِينِ﴾ وفِيهِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: كُنْتُمْ تَقْهَرُونَنا بِقُدْرَتِكم عَلَيْنا، لِأنَّكم كُنْتُمْ أعَزَّ مِنّا، رَواهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: مِن قِبَلِ الدِّينِ فَتُضِلُّونا عَنْهُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. وقالَ الزَّجّاجُ: تَأْتُونَنا مِن قِبَلِ الدِّينِ فَتَخْدَعُونا بِأقْوى الأسْبابِ. والثّالِثُ: كُنْتُمْ تُوَثِّقُونَ ما كُنْتُمْ تَقُولُونَ بِأيْمانِكُمْ، فَتَأْتُونَنا مِن قِبَلِ الأيْمانِ الَّتِي تَحْلِفُونَها، حَكاهُ عَلِيُّ بْنُ أحْمَدَ النَّيْسابُورِيُّ. فَيَقُولُ المَتْبُوعُونَ لَهُمْ: ﴿بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: لَمْ تَكُونُوا عَلى حَقٍّ فَنُضِلُّكم عَنْهُ إنَّما الكُفْرُ مِن قِبَلِكم. ﴿وَما كانَ لَنا عَلَيْكم مِن سُلْطانٍ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ القَهْرُ. والثّانِي: الحُجَّةُ. فَيَكُونُ المَعْنى عَلى الأوَّلِ: وما كانَ لَنا عَلَيْكم مِن قُوَّةٍ نَقْهَرُكم بِها. (p-٥٥)وَنُكْرِهْكم عَلى مُتابَعَتِنا، وعَلى الثّانِي: لَمْ نَأْتِكم بِحُجَّةٍ عَلى ما دَعَوْناكم إلَيْهِ كَما أتَتِ الرُّسُلُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا﴾ أيْ: فَوَجَبَتْ عَلَيْنا كَلِمَةُ العَذابِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ﴾ [الأعْرافِ: ١٨] ﴿إنّا لَذائِقُونَ﴾ العَذابَ جَمِيعًا نَحْنُ وأنْتُمْ، ﴿فَأغْوَيْناكُمْ﴾ أيْ، أضْلَلْناكم عَنِ الهُدى بِدُعائِكم إلى ما نَحْنُ عَلَيْهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿إنّا كُنّا غاوِينَ﴾ . ثُمَّ أخْبَرَ عَنِ الأتْباعِ والمَتْبُوعِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإنَّهم يَوْمَئِذٍ في العَذابِ مُشْتَرِكُونَ﴾، والمُجْرِمُونَ هاهُنا: المُشْرِكُونَ، ﴿إنَّهم كانُوا﴾ في الدُّنْيا ﴿إذا قِيلَ لَهم لا إلَهَ إلا اللَّهُ﴾ أيْ: قُولُوا هَذِهِ الكَلِمَةَ ﴿يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أيْ: يَتَعَظَّمُونَ عَنْ قَوْلِها، ﴿وَيَقُولُونَ أإنّا لَتارِكُو آلِهَتِنا﴾ المَعْنى: أنَتْرُكُ عِبادَةَ آَلِهَتِنا ﴿لِشاعِرٍ﴾ أيْ: لِاتِّباعِ شاعِرٍ؟! يَعْنُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقالَ: ﴿بَلْ﴾ أيْ: لَيْسَ الأمْرُ عَلى ما قالُوا، بَلْ ﴿جاءَ بِالحَقِّ﴾ وهو التَّوْحِيدُ والقُرْآَنُ، ﴿وَصَدَّقَ المُرْسَلِينَ﴾ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَهُ؛ والمَعْنى أنَّهُ أتى بِما أتَوْا بِهِ. ثُمَّ خاطَبَ المُشْرِكِينَ بِما يَعِدُ هَذا إلى قَوْلِهِ: ﴿إلا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ يَعْنِي المُوَحِّدِينَ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: والعَرَبُ تَقُولُ: إنَّكم لَذاهِبُونَ إلّا زَيْدًا. وفي ما اسْتَثْناهم مِنهُ قَوْلانِ. أحَدُهُما: مِنَ الجَزاءِ عَلى الأعْمالِ، فالمَعْنى: إنّا لا نُؤاخِذُهم بِسُوءِ أعْمالِهِمْ، بَلْ نَغْفِرُ لَهُمْ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. والثّانِي: مِن دُونِ العَذابِ؛ فالمَعْنى: فَإنَّهم لا يَذُوقُونَ العَذابَ، قالَهُ مُقاتِلٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهم رِزْقٌ مَعْلُومٌ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ الجَنَّةُ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّانِي: أنَّهُ الرِّزْقُ في الجَنَّةِ، قالَهُ السُّدِّيُّ. (p-٥٦)فَعَلى هَذا، في مَعْنى "مَعْلُومٍ" قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ بِمِقْدارِ الغَداةِ والعَشِيِّ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. والثّانِي: أنَّهم حِينَ يَشْتَهُونَهُ يُؤْتَوْنَ بِهِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. ثُمَّ بَيَّنَ الرِّزْقِ فَقالَ: ﴿فَواكِهُ﴾ [وَهِيَ جُمَعُ فاكِهَةٍ] وهي الثِّمارُ كُلُّها، رُطَبُها ويابِسُها ﴿وَهم مُكْرَمُونَ﴾ بِما أعْطاهُمُ اللَّهُ. وما بَعْدَ هَذا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ [الحِجْرِ: ٤٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِن مَعِينٍ﴾ قالَ الضَّحّاكُ: كُلُّ كَأْسٍ ذُكِرَتْ في القُرْآَنِ، فَإنَّما عُنِيَ بِها الخَمْرُ، [قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الكَأْسُ: الإناءُ بِما فِيهِ، والمُعَيَّنُ: الماءُ الطّاهِرُ الجارِي. قالَ الزَّجّاجُ: الكَأْسُ: الإناءُ الَّذِي فِيهِ الخَمْرُ]، ويَقَعُ الكَأْسُ عَلى كُلِّ إناءٍ مَعَ شَرابِهِ، فَإنْ كانَ فارِغًا فَلَيْسَ بِكَأْسٍ. والمُعَيَّنُ: الخَمْرُ تَجْرِي كَما يَجْرِي الماءُ عَلى وجْهِ الأرْضِ مِنَ العُيُونِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَيْضاءَ﴾ قالَ الحَسَنُ: خَمْرُ الجَنَّةِ أشَدُّ بَياضًا مِنَ اللَّبَنِ. قالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ أرادَ بِالكَأْسِ الخَمْرَ، أنَّهُ قالَ: "بَيْضاءَ"، فَأنَّثَ، ولَوْ أرادَ الإناءَ عَلى انْفِرادِهِ، أوِ الإناءَ والخَمْرَ، لَقالَ: أبْيَضُ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إنَّما أرادَ بِقَوْلِهِ: "بَيْضاءَ" الكَأْسَ، ولِتَأْنِيثِ الكَأْسِ أُنِّثَتِ البَيْضاءُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَذَّةٍ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ: لَذِيذَةً، يُقالُ: شَرابُ لِذاذٌ: إذا كانَ طَيِّبًا. وقالَ الزَّجّاجُ: أيْ: ذاتُ لَذَّةٍ. ﴿لا فِيها غَوْلٌ﴾ فِيهِ سَبْعَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: لَيْسَ فِيها صُداعٌ، رَواهُ ابْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: لَيْسَ فِيها وجَعُ بَطْنٍ، [رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ] . (p-٥٧)والثّالِثُ: لَيْسَ فِيها صُداعُ رَأْسٍ، قالَهُ قَتادَةُ. والرّابِعُ: لَيْسَ فِيها أذًى ولا مَكْرُوهٌ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. والخامِسُ: لا تَغْتالُ عُقُولَهُمْ، قالَهُ السُّدِّيُّ. وقالَ الزَّجّاجُ: لا تَغْتالُ عُقُولَهم فَتَذْهَبُ بِها ولا يُصِيبُهم مِنها وجَعٌ. والسّادِسُ: لَيْسَ فِيها إثْمٌ، حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. والسّابِعُ: لَيْسَ فِيها شَيْءٌ مِن هَذِهِ الآَفاتِ، لِأنَّ كُلَّ مَن نالَهُ شَيْءٌ مِن هَذِهِ الآَفاتِ، قِيلَ: قَدْ غالَتْهُ غَوْلٌ، فالصَّوابُ أنَّ يَكُونَ نَفْيُ الغَوْلِ عَنْها يَعُمُّ جَمِيعَ هَذِهِ الأشْياءِ، هَذا اخْتِيارُ ابْنُ جَرِيرٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا هم عَنْها يُنْزَفُونَ﴾ قَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: بِكَسْرِ الزّايِ هاهُنا وفي [الواقِعَةِ: ١٩] . وفَتَحَ عاصِمٌ الزّايَ هاهُنا، وكَسَرَها في [الواقِعَةِ: ١٩] . وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، . وابْنُ عامِرٍ: بِفَتْحِ الزّايِ في السُّورَتَيْنِ. قالَ الفَرّاءُ: فَمَنَ فَتَحَ، فالمَعْنى: لا تَذْهَبُ عُقُولُهم بِشُرْبِها. يُقالُ لِلسَّكْرانِ: نَزِيفٌ ومَنزُوفٌ؛ "وَمَن" كَسَرَ، فَفِيهِ وجْهانِ. أحَدُهُما: لا يُنْفِدُونَ شَرابَهُمْ، أيْ: هو دائِمٌ أبَدًا. والثّانِي: لا يَسْكَرُونَ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ لَعَمْرِي لَئِنْ أنْزَفْتُمُ أوْ صَحَوْتُمْ لَبِئْسَ النَّدامى كُنْتُمُ آَلَ أبْجَرا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعِنْدَهم قاصِراتُ الطَّرْفِ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُنَّ النِّساءُ قَدْ قَصَرْنَ طَرْفُهُنَّ عَلى أزْواجِهِنَّ فَلا يَنْظُرْنَ إلى غَيْرِهِمْ. وأصْلُ القَصْرِ: الحَبْسُ، قالَ ابْنُ زَيْدٍ: إنَّ المَرْأةَ مِنهُنَّ لَتَقُولُ (p-٥٨)لِزَوْجِها: وعِزَّةُ رَبِّي ما أرى في الجَنَّةِ شَيْئًا أحْسَنَ مِنكَ، فالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنِي زَوْجَكَ وجَعَلَكَ زَوْجِيَ. والثّانِي: أنَّهُنَّ قَدْ قَصَرْنَ طَرْفَ الأزْواجِ عَنْ غَيْرِهِنَّ، لِكَمالِ حُسْنِهِنَّ، سَمِعْتُهُ مِنَ الشَّيْخِ أبِي مُحَمَّدِ بْنِ الخَشّابِ النَّحْوِيِّ. وَفِي العَيْنِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: حِسانُ العُيُونِ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّانِي: عِظامُ الأعْيُنِ، قالَهُ السُّدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ. والثّالِثُ: كِبارُ العُيُونِ حِسانُها، وواحِدَتُهُنَّ عَيْناءُ، قالَهُ الزَّجّاجُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَأنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ﴾ في المُرادِ بِالبَيْضِ هاهُنا ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّهُ اللُّؤْلُؤُ، رَواهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ. والثّانِي: بَيْضُ النَّعامِ، قالَهُ الحَسَنُ، وابْنُ زَيْدٍ، والزَّجّاجُ. قالَ جَماعَةٌ مِن أهْلِ اللُّغَةِ: والعَرَبُ تُشْبِهُ المَرْأةَ الحَسْناءَ في بَياضِها وحُسْنُ لَوْنِها بَيْضَةُ النَّعامَةِ، وهو أحْسَنُ ألْوانِ النِّساءِ، وهو أنْ تَكُونَ المَرْأةُ بَيْضاءَ مُشَرَّبَةً صُفْرَةً. والثّالِثُ: أنَّهُ البَيْضُ حِينَ يُقَشَّرُ قَبْلَ أنْ تَمَسَّهُ الأيْدِي، قالَهُ السُّدِّيُّ، وإلى هَذا المَعْنى ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتادَةُ، وابْنُ جَرِيرٍ. فَأمّا المَكْنُونُ، فَهو المَصُونُ. فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ: هو مَكْنُونٌ في صَدَفِهِ، وعَلى الثّانِي: هو مَكْنُونٌ بِرِيشِ النَّعامِ، وعَلى الثّالِثُ: هو مَكْنُونٌ بِقِشْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب