الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاسْتَفْتِهِمْ﴾ أيْ: فَسَلْهم سُؤالُ تَقْرِيرٍ ﴿أهم أشَدُّ خَلْقًا﴾ أيْ: أحْكَمُ صَنْعَةً ﴿أمْ مَن خَلَقْنا﴾ فِيهِ قَوْلانِ. (p-٤٩)أحَدُهُما: أنَّ المَعْنى: أمْ مَن عَدَدْنا خَلْقَهُ مِنَ المَلائِكَةِ والشَّياطِينِ والسَّمَواتِ والأرْضِ، قالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. والثّانِي: أمْ مَن خَلَقْنا قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ السّالِفَةِ، والمَعْنى إنَّهم لَيْسُوا بِأقْوى مِن أُولَئِكَ وقَدْ أهْلَكْناهم بِالتَّكْذِيبِ، فَما الَّذِي يُؤْمِّنُ هَؤُلاءِ؟! ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ النّاسِ فَقالَ: ﴿إنّا خَلَقْناهم مِن طِينٍ لازِبٍ﴾ قالَ الفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ: لاصَقٌ لازِمٌ، والباءُ تُبْدَلُ مِنَ المِيمِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِما. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو الطِّينُ الحُرُّ الجَيِّدُ اللَّزِقُ. وقالَ غَيْرُهُ: هو الطِّينُ الَّذِي يَنْشُفُ عَنْهُ الماءُ وتَبْقى رُطُوبَتُهُ في باطِنِهِ فَيُلْصَقُ بِاليَدِ كالشَّمْعِ. وهَذا إخْبارٌ عَنْ تَساوِي الأصْلِ في خَلْقِهِمْ وخَلْقِ مَن قَبْلَهُمْ؛ فَمَن قَدَرَ عَلى إهْلاكَ الأقْوِياءِ، قَدَرَ عَلى إهْلاكِ الضُّعَفاءِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بَلْ عَجِبْتَ﴾ "بَلْ" مَعْناهُ: تَرَكُ الكَلامِ الأوَّلِ والأخْذِ في الكَلامِ الآَخَرِ، كَأنَّهُ قالَ: دَعْ يا مُحَمَّدُ ما مَضى. وَفِي "عَجِبْتَ" قِراءَتانِ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: "بَلْ عَجِبْتَ" بِفَتْحِ التّاءِ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وعِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ، وأبُو مِجْلَزٍ، والنَّخْعِيُّ، وطِلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، والأعْمَشُ، وابْنُ أبِي لَيْلى، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ في آَخَرِينَ: "بَلْ عَجِبْتُ" بِضَمِّ التّاءِ، [واخْتارَها الفَرّاءُ] . فَمَن فَتْحَ، أرادَ: بَلْ عَجِبْتَ يا مُحَمَّدُ، ﴿وَيَسْخَرُونَ﴾ هم. قالَ ابْنُ السّائِبِ: أنْتَ تَعْجَبُ مِنهُمْ، وهم يَسْخَرُونَ مِنكَ. وفي ما عَجِبَ مِنهُ قَوْلانِ، أحَدُهُما: مِنَ الكَفّارِ إذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالقُرْآَنِ، والثّانِي: إذْ كَفَرُوا بِالبَعْثِ. ومَن ضَمَّ، أرادَ الإخْبارَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ (p-٥٠)أنَّهُ عَجِبَ، قالَ الفَرّاءُ؛ وهي قِراءَةُ عَلَيٍّ، وعَبْدِ اللَّهِ، وابْنِ عَبّاسٍ، وهي أحَبُّ إلَيَّ؛ وقَدْ أنْكَرَ هَذِهِ القِراءَةَ قَوْمٌ، مِنهم شُرَيْحٌ القاضِي، فَإنَّهُ قالَ: إنَّ اللَّهَ لا يَعْجَبُ، إنَّما يَعْجَبُ مَن لا يَعْلَمُ قالَ الزَّجّاجُ: وإنْكارُ هَذِهِ القِراءَةِ غَلَطٌ لِأنَّ العَجَبَ مِنَ اللَّهِ خِلافُ العَجَبِ مِنَ الآَدَمَيِّينِ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿وَيَمْكُرُ اللَّهُ﴾ [الأنْفالِ: ٣٠] وقَوْلُهُ: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ٧٩]، وأصِلُ العَجَبَ في اللُّغَةِ: أنَّ الإنْسانَ إذا رَأى ما يُنْكِرُهُ ويَقِلُّ مَثَلُهُ، قالَ: قَدْ عَجِبَتُ مِن كَذا، وكَذَلِكَ إذا فَعَلَ الآَدَمِيُّونَ ما يُنْكِرُهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، جازَ أنْ يَقُولَ: عَجِبْتُ، واللَّهُ قَدْ عَلِمَ الشَّيْءَ قَبْلَ كَوْنِهِ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: المَعْنى: جازَيْتُهم عَلى عَجَبِهِمْ مِنَ الحَقِّ، فَسَمّى الجَزاءَ عَلى الشَّيْءِ بِاسْمِ الشَّيْءِ الَّذِي لَهُ الجَزاءُ، فَسَمّى فِعْلَهُ عَجَبًا ولَيْسَ بِعَجَبٍ في الحَقِيقَةِ، لِأنَّ المُتَعَجِّبَ يُدْهَشُ ويَتَحَيَّرُ، واللَّهُ عَزَّ وجَلَّ قَدْ جَلَّ عَنْ ذَلِكَ؛ وكَذَلِكَ سُمِّيَ تَعْظِيمُ الثَّوابِ عَجَبًا، لِأنَّهُ إنَّما يَتَعَجَّبُ مِنَ الشَّيْءِ إذا كانَ في النِّهايَةِ، والعَرَبُ تُسَمِّي الفِعْلَ بِاسْمِ الفِعْلِ إذا داناهُ مِن بَعْضِ وُجُوهِهِ وإنْ كانَ مُخالِفًا لَهُ في أكْثَرِ مَعانِيهِ قالَ عَدِيٌّ: ؎ ثُمَّ أضْحَوْا لَعِبَ الدَّهْرُ بِهِمْ [وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ يُودِي بِالرِّجالِ] فَجَعَلَ إهْلاكَ الدَّهْرِ وإفْسادِهِ لَعِبًا. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: مِن ضَمِّ التّاءِ، فالمَعْنى: بَلْ عَظُمَ عِنْدِي وكَبُرَ اتِّخاذُهم لِي شَرِيكًا وتَكْذِيبُهم تَنْزِيلِي. وقالَ غَيْرُهُ: إضافَةَ العَجَبِ إلى اللَّهِ عَلى ضَرْبَيْنِ، أحَدُهُما: بِمَعْنى الإنْكارِ والذَّمِّ، كَهَذِهِ الآَيَةِ، والثّانِي: بِمَعْنى الِاسْتِحْسانِ والإخْبارِ عَنْ تَمامِ الرِّضى، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: « "عَجِبَ رَبُّكَ مِن شابٍّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ"» (p-٥١)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ﴾ أيْ: إذا وعَظُوا بِالقُرْآَنِ لا يَذَّكَّرُونَ ولا يَتَّعِظُونَ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكُ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وأبُو عِمْرانَ: "ذَكَّرُوا" بِتَخْفِيفِ الكافِ. ﴿وَإذا رَأوْا آيَةً﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَعْنِي انْشِقاقَ القَمَرِ ﴿يَسْتَسْخِرُونَ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يَسْتَسْخِرُونَ ويَسْخَرُونَ سَواءٌ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: سَخِرَ واسْتَسْخَرَ، كَما يُقالُ: قَرَّ واسْتَقَرَّ، وعَجِبَ واسْتَعْجَبَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ يَسْألُونَ غَيْرَهم مِنَ المُشْرِكِينَ أنْ يَسْخَرُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ، كَما يُقالُ: اسْتَعْتَبْتُهُ، أيْ: سَألْتُهُ العُتْبى، واسْتَوْهَبْتُهُ، أيْ: سَألْتُهُ الهِبَةَ، واسْتَعْفَيْتُهُ: سَألْتُهُ العَفْوَ. ﴿وَقالُوا إنْ هَذا﴾ يَعْنُونَ انْشِقاقَ القَمَرِ ﴿إلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ: بَيَّنَ لِمَن تَأمَّلَهُ أنَّهُ سِحْرٌ. ﴿أإذا مِتْنا﴾ قَدْ سَبَقَ بَيانُ [هَذِهِ] الآَيَةِ [مَرْيَمَ: ٦٦] . (p-٥٢)﴿أوَآباؤُنا﴾ هَذِهِ ألِفُ الِاسْتِفْهامِ دَخَلَتْ عَلى حَرْفِ العَطْفِ، كَقَوْلِهِ: ﴿أوَأمِنَ أهْلُ القُرى﴾ [الأعْرافِ: ٩٨] . وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: "أوْ آَباؤُنا الأوَّلُونَ" بِسُكُونِ الواوِ هاهُنا وفي [الواقِعَةِ: ٤٨] . ﴿قُلْ نَعَمْ﴾ أيْ: نَعَمَ تُبْعَثُونَ ﴿وَأنْتُمْ داخِرُونَ﴾ أيْ: صاغِرُونَ. ﴿فَإنَّما هي زَجْرَةٌ واحِدَةٌ﴾ أيْ: فَإنَّما قِصَّةُ البَعْثِ صَيْحَةٌ واحِدَةٌ مِن إسْرافِيلَ، وهي نَفْخَةُ البَعْثِ، وسُمِّيَتْ زَجْرَةً، لِأنَّ مَقْصُودَها الزَّجْرُ ﴿فَإذا هم يَنْظُرُونَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أيْ: يَحْيَوْنَ ويُبْعَثُونَ بُصَراءَ يَنْظُرُونَ، فَإذا عايَنُوا بَعْثَهُمْ، ذَكَرُوا إخْبارَ الرُّسُلِ عَنِ البَعْثِ، ﴿وَقالُوا يا ويْلَنا هَذا يَوْمُ الدِّينِ﴾ أيْ: يَوْمَ الحِسابِ والجَزاءِ، فَتَقُولُ المَلائِكَةُ: ﴿هَذا يَوْمُ الفَصْلِ﴾ أيْ: يَوْمَ القَضاءِ الَّذِي يَفْصِلُ فِيهِ بَيْنَ المُحْسِنِ والمُسِيءِ؛ ويَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَوْمَئِذٍ لِلْمَلائِكَةِ ﴿احْشُرُوا﴾ أيِ: اجْمَعُوا ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ مِن حَيْثُ هُمْ، وفِيهِمْ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُمُ المُشْرِكُونَ. والثّانِي: أنَّهُ عامٌّ في كُلِّ ظالِمٍ. وفي أزْواجِهِمْ أرْبَعَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أمْثالُهم وأشْباهُهُمْ، وهو قَوْلُ عُمْرَ، وابْنُ عَبّاسٍ، والنُّعْمانُ بْنُ بَشِيرٍ، ومُجاهِدٌ في آَخَرِينَ. ورُوِيَ عَنْ عُمْرَ قالَ: يَحْشُرُ صاحِبُ الرِّبا مَعَ صاحِبِ الرِّبا، وصاحِبُ الزِّنا مَعَ صاحِبِ الزِّنا، وصاحِبُ الخَمْرِ مَعَ صاحِبِ الخَمْرِ. والثّانِي: أنَّ أزْواجَهُمُ: المُشْرِكاتُ. قالَهُ الحَسَنُ. والثّالِثُ: أشْياعُهُمْ، قالَهُ قَتادَةُ. والرّابِعُ: قُرَناؤُهم مِنَ الشَّياطِينِ الَّذِينَ أضَلُّوهُمْ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَما كانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: الأصْنامُ. قالَهُ عِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ. والثّانِي: إبْلِيسٌ وحْدَهُ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّالِثُ: الشَّياطِينُ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ وغَيْرُهُ. (p-٥٣)[ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاهْدُوهم إلى صِراطِ الجَحِيمِ﴾ أيْ: دَلُّوهم عَلى طَرِيقِها؛ والمَعْنى: اذْهَبُوا بِهِمْ إلَيْها. قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ: هَدَيْتُ الرَّجُلَ: إذا دَلَلْتُهُ، وهَدَيْتُ العَرُوسَ إلى زَوْجِها، وأهْدَيْتُ الهَدِيَّةَ، فَإذا جَعَلْتَ العَرُوسَ كالهَدِيَّةِ، قُلْتَ: أهْدَيْتُها] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقِفُوهُمْ﴾ أيِ: احْبِسُوهم ﴿إنَّهم مَسْؤُولُونَ﴾ وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ: "أنَّهُمْ" بِفَتْحِ الهَمْزَةِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا سِيقُوا إلى النّارِ حُبِسُوا عِنْدَ الصِّراطِ، لِأنَّ السُّؤالَ هُناكَ. وفي هَذا السُّؤالِ سِتَّةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّهم سُئِلُوا عَنْ أعْمالِهِمْ وأقْوالِهِمْ في الدُّنْيا. الثّانِي: عَنْ "لا إلَهَ إلّا اللَّهُ"، رُوِيا جَمِيعًا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: عَنْ خَطاياهُمْ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والرّابِعُ: سَألَهم خَزَنَةُ جَهَنَّمَ: ﴿ألَمْ يَأْتِكم نَذِيرٌ﴾ [المُلْكِ: ٨] ونَحْوُ هَذا، قالَهُ مُقاتِلٌ والخامِسُ: أنَّهم يَسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْبُدُونَ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. والسّادِسُ: أنَّ سُؤالَهم قَوْلُهُ: ﴿ما لَكم لا تَناصَرُونَ﴾؟!، [ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ] . قالَ المُفَسِّرُونَ: المَعْنى: ما لَكم لا يَنْصُرُ بَعْضُكم بَعْضًا كَما كُنْتُمْ في الدُّنْيا؟! وهَذا جَوابُ أبِي جَهْلٍ حِينَ قالَ يَوْمَ بَدْرٍ: ﴿نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ﴾ [القَمَرِ: ٤٤]، فَقِيلَ لَهم ذَلِكَ يَوْمَئِذٍ تَوْبِيخًا. والمُسْتَسْلِمُ: المُنْقادُ الذَّلِيلُ؛ والمَعْنى أنَّهم مُنْقادُونَ لا حِيلَةَ لَهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب