الباحث القرآني

(p-٢٤)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذا قِيلَ لَهم أنْفِقُوا﴾ اخْتَلَفُوا فِيمَن نَزَلَتْ عَلى ثَلاثَةِ أقَوْالٍ. أحَدُها: في اليَهُودِ، قالَهُ الحَسَنُ. والثّانِي: في الزَّنادِقَةِ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّالِثُ: في مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، قالَهُ مُقاتِلٌ؛ وذَلِكَ أنَّ المُؤْمِنِينَ قالُوا لِكُفّارِ مَكَّةَ: أنْفِقُوا عَلى المَساكِينَ النَّصِيبَ الَّذِي زَعَمْتُمْ أنَّهُ لِلَّهِ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ، فَقالُوا: ﴿أنُطْعِمُ مَن لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أطْعَمَهُ﴾ . وقالَ ابْنُ السّائِبِ: كانَ العاصِ بْنِ وائِلٍ إذا سَألَهُ مِسْكِينٌ، قالَ: اذْهَبْ إلى رَبِّكَ فَهو أوْلى بِكَ مِنِّي، ويَقُولُ: قَدْ مَنَعَهُ اللَّهُ، أُطْعِمُهُ أنا؟! ومَعْنى الكَلامِ أنَّهم قالُوا: لَوْ أرادَ اللَّهُ أنْ يَرْزُقَهم لَرَزَقَهُمْ، فَنَحْنُ نُوافِقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ فِيهِمْ فَلا نُطْعِمُهُمْ؛ وهَذا خَطَأٌ مِنهُمْ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى أغْنى بَعْضَ الخَلْقِ وأفْقَرَ بَعْضًا، لِيَبْلُوَ الغَنِيَّ بِالفَقِيرِ فِيما فَرَضَ لَهُ في مالِهِ مِنَ الزَّكاةِ، والمُؤْمِنُ لا يَعْتَرِضُ عَلى المَشِيئَةِ، وإنَّما يُوافِقُ الأمْرَ. وقِيلَ: إنَّما قالُوا هَذا عَلى سَبِيلِ الِاسْتِهْزاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿إنْ أنْتُمْ إلا في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ مِن قَوْلِ الكُفّارِ لِلْمُؤْمِنِينَ، يَعْنُونَ: إنَّكم في خَطَإٍ مِنَ اتِّباعِ مُحَمَّدٍ. والثّانِي: أنَّهُ مِن قَوْلِ اللَّهِ لِلْكُفّارِ لَمّا رَدُّوهُ مِن جَوانِبِ المُؤْمِنِينَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مَتى هَذا الوَعْدُ﴾؟ يَعْنُونَ القِيامَةَ؛ والمَعْنى: مَتى إنْجازُ هَذا الوَعْدِ ﴿إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ ؟ يَعْنُونَ مُحَمَّدًا وأصْحابَهُ. ﴿ما يَنْظُرُونَ﴾ أيْ: ما يَنْتَظِرُونَ ﴿إلا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ وهي النَّفْخَةُ الأُولى. و ﴿يَخِصِّمُونَ﴾ بِمَعْنى يَخْتَصُّونَ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الصّادِ. قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: "يَخْصِمُونَ" بِفَتْحِ الياءِ والخاءِ وتَشْدِيدِ الصّادِ. ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو اخْتِلاسُ حَرَكَةِ الخاءِ. وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، والكِسائِيُّ: (p-٢٥)"يَخِصِّمُونَ" بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الخاءِ. وعَنْ عاصِمٍ كَسَرَ الياءَ والخاءَ. وقَرَأ نافِعٌ بِسُكُونِ الخاءِ وتَشْدِيدِ الصّادِ. وقَرَأ حَمْزَةُ بِسُكُونِ الخاءِ وتَخْفِيفِ الصّادِ، أيْ: يَخْصِمُ بَعْضُهم بَعْضًا. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "يَخْتَصِمُونَ" بِزِيادَةِ تاءٍ؛ والمَعْنى أنَّ السّاعَةَ تَأْتِيهِمْ أغْفَلَ ما كانُوا عَنْها وهم مُتَشاغِلُونَ في مُتَصَرَّفاتِهِمْ وبَيْعِهِمْ وشِرائِهِمْ، ﴿فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً﴾ قالَ مُقاتِلٌ: أعْجَلُوا عَنِ الوَصِيَّةِ فَماتُوا، ﴿وَلا إلى أهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ﴾ أيْ: لا يَعُودُونَ مِنَ الأسْواقِ إلى مَنازِلِهِمْ؛ فَهَذا وصْفُ ما يُلْقُونَ في النَّفْخَةِ الأُولى. ثُمَّ ذَكَرَ ما يُلْقُونَ في النَّفْخَةِ الثّانِيَةِ فَقالَ: ﴿وَنُفِخَ في الصُّورِ فَإذا هم مِنَ الأجْداثِ﴾ يَعْنِي القُبُورَ، ﴿إلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ﴾ أيْ: يَخْرُجُونَ بِسُرْعَةٍ، وقَدْ شَرَحْنا هَذا المَعْنى في سُورَةِ [الأنْبِياءِ: ٩٦] . ﴿قالُوا يا ويْلَنا مَن بَعَثَنا مَن مَرْقَدِنا﴾ وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وأبُو رَزِينٍ، والضَّحّاكُ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: "مِن بَعْثِنا" بِكَسْرِ المِيمِ والثّاءِ وسُكُونِ العَيْنِ. قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّما قالُوا هَذا لِأنَّ اللَّهَ تَعالى رَفْعَ عَنْهُمُ العَذابَ فِيما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَنامُونَ نَوْمَةً قَبْلَ البَعْثِ، فَإذا بُعِثُوا قالُوا هَذا. (p-٢٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا ما وعَدَ الرَّحْمَنُ﴾ في قائِلِي هَذا الكَلامِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّهُ قَوْلُ المُؤْمِنِينَ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ، وابْنُ أبِي لَيْلى. قالَ قَتادَةُ: أوَّلُ الآَيَةِ لِلْكافِرِينَ، وآَخِرُها لِلْمُؤْمِنِينَ. والثّانِي: أنَّهُ قَوْلُ المَلائِكَةِ لَهُمْ، قالَهُ الحَسَنُ. والثّالِثُ: أنَّهُ قَوْلُ الكافِرِينَ، يَقُولُ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: هَذا الَّذِي أخْبَرَنا بِهِ المُرْسَلُونَ أنَّنا نُبْعَثُ ونُجازى، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قالَ الزَّجّاجُ: "مِن مَرْقَدِنا" هو وقْفُ التَّمامِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ "هَذا" مِن نَعْتِ "مَرْقَدِنا" عَلى مَعْنى: مَن بَعَثَنا مِن مَرْقَدِنا هَذا الَّذِي كُنّا راقِدِينَ فِيهِ؟ ويَكُونُ في قَوْلِهِ: "ما وعَدَ الرَّحْمَنُ" أحَدُ إضْمارَيْنِ، إمّا "هَذا"، وإمّا "حَقٌّ"، فَيَكُونُ المَعْنى: حَقٌّ ما وعَدَ الرَّحْمَنَ. (p-٢٧)ثُمَّ ذَكَرَ النَّفْخَةَ الثّانِيَةَ، فَقالَ: ﴿إنْ كانَتْ إلا صَيْحَةً واحِدَةً﴾، وما بَعْدَ هَذا ظاهِرٌ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ أصْحابَ الجَنَّةِ اليَوْمَ﴾ يَعْنِي في الآَخِرَةِ ﴿فِي شُغُلٍ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو: "فِي شُغْلٍ" بَإسْكانِ الغَيْنِ. وقَرَأ عاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: "فِي شُغُلٍ" بِضَمِّ الشِّينِ والغَيْنِ. وقَرَأ أبُو هُرَيْرَةَ، وأبُو رَجاءٍ، وأيُّوبُ السِّخْتِيانِيُّ: "فِي شَغَلٍ" بِفَتْحِ الشِّينِ والغَيْنِ. وقَرَأ أبُو مِجْلَزٍ، وأبُو العالِيَةَ، وعِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، والنَّخْعِيُّ، وابْنُ يَعْمُرَ، والجَحْدَرِيُّ: "فِي شَغْلٍ" بِفَتْحِ الشِّينِ وسُكُونِ الغَيْنِ، وفِيهِ ثَلاثَةُ أقَوْالٍ. أحَدُها: أنَّ شَغْلَهُمُ افْتِضاضُ العَذارى، رَواهُ شَقِيقٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودَ، ومُجاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وقَتادَةُ، والضَّحّاكُ. والثّانِي: ضَرَبُ الأوْتارِ، رَواهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ؛ وعَنْ عِكْرِمَةَ كالقَوْلَيْنِ، ولا يَثْبُتُ هَذا القَوْلُ. والثّالِثُ: النِّعْمَةُ، قالَهُ مُجاهِدٌ. وقالَ الحَسَنُ: شُغُلُهُمْ: نَعِيمُهم عَمّا فِيهِ أهْلُ النّارِ مِنَ العَذابِ. (p-٢٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاكِهُونَ﴾ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وقَتادَةُ، وأبُو الجَوْزاءِ، والنَّخْعِيُّ، وأبُو جَعْفَرَ: "فَكِهُونَ" . وهَلْ بَيْنَهُما فَرْقٌ؟ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ بَيْنَهُما فَرْقًا. فَأمًّا "فاكِهُونَ" فَفِيهِ أرْبَعُةُ أقْوالٍ. أحَدُها: فَرِحُونَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: مُعْجَبُونَ، قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ. والثّالِثُ: ناعِمُونَ، قالَهُ أبُو مالِكٍ، ومُقاتِلٌ. والرّابِعُ: ذَوُو فاكِهَةٍ، كَما يُقالُ: فُلانٌ لِابْنِ تامِرٍ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. وَأمّا "فَكِهُونَ" فَفِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّ الفَكِهَ: الَّذِي يَتَفَكَّهُ، تَقُولُ العَرَبُ لِلرَّجُلِ إذا كانَ يَتَفَكَّهُ بِالطَّعامِ أوْ بِالفاكِهَةِ أوْ بِأعْراضِ النّاسِ: إنَّ فُلانًا لَفَكِهٌ بِكَذا، ومِنهُ يُقالُ لِلْمُزاحِ: فُكاهَةٌ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ. والثّانِي: أنَّ فَكِهِينَ بِمَعْنى فَرِحِينَ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ فاكِهِينَ وفَكِهِينَ بِمَعْنًى واحِدٍ، كَما يُقالُ: حاذِرٌ وحَذِرٌ، قالَهُ الفَرّاءُ. وقالَ الزَّجّاجُ: فاكِهُونَ وفَكِهُونَ بِمَعْنى فَرِحِينَ. وقالَ أبُو زَيْدٍ: الفَكِهُ: الطَّيِّبُ النَّفْسَ الضَّحُوكُ، يُقالُ: رَجُلٌ فاكِهٌ وفَكِهٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هم وأزْواجُهُمْ﴾ يَعْنِي حَلائِلَهم ﴿فِي ظِلالٍ﴾ وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلْفٌ: "فِي ظُلَلٍ" . قالَ الفَرّاءُ: الظِّلالُ جَمْعُ ظِلٍّ، والظُّلَلُ جَمَعُ ظُلَّةٍ، وقَدْ تَكُونُ الظِّلالُ جَمْعَ ظُلَّةٍ أيْضًا، كَما يُقالُ: خُلَّةُ وخُلَلٌ؛ فَإذا كَثُرَتْ فَهي الخِلالُ والخَلالُ والقِلالُ. قالَ مُقاتِلٌ: والظِّلالُ: أكْنانُ القُصُورِ. (p-٢٩)قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: والمَعْنى أنَّهم لا يُضَحُّونَ. فَأمّا الأرائِكَ، فَقَدْ بَيَّنّاها في سُورَةِ [الكَهْفِ: ٣١] . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَهم ما يَدَّعُونَ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ما يَتَمَنَّوْنَ، ومِنهُ يَقُولُ النّاسُ: هو في خَيْرٍ ما ادَّعى، أيْ: ما تَمَنّى، والعَرَبُ تَقُولُ: ادْعُ ما شِئْتَ، أيْ: تَمَنَّ ما شِئْتَ. وقالَ الزَّجّاجُ: هو مَأْخُوذٌ مِنَ الدُّعاءِ؛ والمَعْنى: كُلُّ ما يَدْعُو بِهِ أهْلُ الجَنَّةِ يَأْتِيهِمْ. وقَوْلُهُ: ﴿سَلامٌ﴾ بَدَلٌ مِن "ما"؛ المَعْنى: لَهم ما يَتَمَنَّوْنَ سَلامٌ، أيْ: هَذا مُنى أهْلِ الجَنَّةِ أنْ يُسَلِّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. و ﴿قَوْلا﴾ مَنصُوبٌ عَلى مَعْنى: سَلامٌ يَقُولُهُ اللَّهُ قَوْلًا. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: "سَلامٌ" رُفِعَ عَلى "لَهُمْ"؛ فالمَعْنى: لَهم فِيها فاكِهَةٌ ولَهم فِيها سَلامٌ، وقالَ الفَرّاءُ: مَعْنى الكَلامِ: لَهم ما يَدَّعُونَ مُسْلَّمٌ خالِصٌ، ونَصَبَ القَوْلَ، كَأنَّكَ قُلْتَ: قالَهُ قَوْلًا، وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَهُ نَصْبًا مِن قَوْلِهِ: ولَهم ما يَدَّعُونَ قَوْلًا، كَقَوْلِكَ: عِدَّةٌ مِنَ اللَّهِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، والجَحْدَرِيُّ: "سَلامًا قَوْلًا" بِنَصْبِهِما جَمِيعًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب