الباحث القرآني

﴿لَقَدْ حَقَّ القَوْلُ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: وجَبَ العَذابُ. والثّانِي: سَبَقَ القَوْلُ بِكُفْرِهِمْ. (p-٦)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى أكْثَرِهِمْ﴾ يَعْنِي أهْلَ مَكَّةَ، وهَذِهِ إشارَةٌ إلى إرادَةِ اللَّهِ تَعالى السّابِقَةِ لِكُفْرِهِمْ ﴿فَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ لِما سَبَقَ مِنَ القَدَرِ بِذَلِكَ. ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالا﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّها مَثَلٌ، ولَيْسَ هُناكَ غِلٌّ حَقِيقَةً، قالَهُ أكْثَرُ المُحَقِّقِينَ، ثُمَّ لَهم فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها أنَّها مَثَلٌ لِمَنعِهِمْ عَنْ كُلِّ خَيْرٍ، قالَهُ قَتادَةُ. والثّانِي: لِحَبْسِهِمْ عَنِ الإنْفاقِ في سَبِيلِ اللَّهِ بِمَوانِعَ كالأغْلالِ، قالَهُ الفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. والثّالِثُ: لِمَنعِهِمْ مِنَ الإيمانِ بِاللَّهِ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها مَوانِعٌ حِسِّيَّةٌ مَنَعَتْ كَما يَمْنَعُ الغِلُّ؛ قالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ: «حَلَفَ أبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأى النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي لِيَدْمَغْنَّهُ، فَجاءَهُ وهو يُصَلِّي، فَرَفَعَ حَجَرًا فَيَبِسَتْ يَدُهُ والتَصَقَ الحَجَرُ بِيَدِهِ، فَرَجَعَ إلى أصْحابِهِ فَأُخْبَرَهُمُ الخَبَرَ، فَقامَ رَجُلٌ مِنهم فَأخَذَ الحَجْرَ، فَلَمّا دَنا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طَمَسَ اللَّهُ عَلى بَصَرِهِ فَلَمْ يَرَهُ فَرَجَعَ إلى أصْحابِهِ فَلَمْ يُبْصِرْهم حَتّى نادَوْهُ، فَنَزَلَ في أبِي جَهْلٍ: ﴿إنّا جَعَلْنا في أعْناقِهِمْ أغْلالا. . .﴾ الآَيَةُ، ونَزَلَ في الآَخَرِ: ﴿وَجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾» . (p-٧)والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّهُ عَلى حَقِيقَتِهِ، إلّا أنَّهُ وصْفٌ لِما سَيُنْزِلُهُ اللَّهُ تَعالى بِهِمْ في النّارِ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَهِيَ إلى الأذْقانِ﴾ قالَ الفَرّاءُ "فَهِيَ" كِنايَةٌ عَنِ الإيمانِ، ولَمْ تُذْكَرْ، لِأنَّ الغِلَّ لا يَكُونُ إلّا في اليَمِينِ والعُنُقِ جامِعًا لَهُما، فاكْتُفِيَ بِذِكْرِ أحَدِهِما عَنْ صاحِبِهِ. وقالَ الزَّجّاجُ: "هِيَ" كِنايَةٌ عَنِ الأيْدِي، ولَمْ يُذْكَرْ إيجازًا، لِأنَّ الغِلَّ يَتَضَمَّنُ اليَدَ والعُنُقَ، وأنْشَدَ: ؎ وما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضًا أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي وَإنَّما قالَ: أيُّهُما، لِأنَّهُ قَدْ عَلِمَ أنَّ الخَيْرَ والشَّرَّ مُعَرَّضانِ لِلْإنْسانِ. قالَ الفَرّاءُ: والذَّقْنُ أسْفَلَ اللَّحْيَيْنِ، والمُقْمَحُ: الغاضُّ بَصَرَهُ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ رافِعٍ رَأْسَهُ فَهو مُقامِحٌ وقامِحٌ، والجَمْعُ: قِماحٌ، فَإنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِإنْسانٍ فَهو مُقْمِحٌ، ومِنهُ هَذِهِ الآَيَةُ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: بَعِيرٌ قامِحٌ، وإبِلٌ قِماحٌ: إذا رُوِيَتْ مِنَ الماءِ فَقَمَحَتْ، قالَ الشّاعِرُ -وَذَكَرَ سَفِينَةُ-: ؎ ونَحْنُ عَلى جَوانِبِها قُعُودٌ ∗∗∗ نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإبِلِ القِماحِ وَقالَ الأزْهَرِيُّ: المُرادُ أنَّ أيْدِيَهم لَمّا غُلَّتْ عِنْدَ أعْناقِهِمْ؛ رَفَعَتِ الأغْلالُ أذْقانَهم ورُؤُوسَهُمْ، فَهم مَرْفُوعُو الرُّؤُوسِ بِرَفْعِ الأغْلالِ إيّاها. (p-٨)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ سَدًّا﴾ قَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفَصٌ عَنْ عاصِمٍ: بِفَتْحِ السِّينِ، والباقُونَ: بِضَمِّها وقَدْ تَكَلَّمْنا عَلى الفَرْقِ [بَيْنَهُما] في [الكَهْفِ: ٩٤] . وفي مَعْنى الآَيَةِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: مَنَعْناهم عَنِ الإيمانِ بِمَوانِعَ، فَهم لا يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ عَنِ الكُفْرِ. والثّانِي: حَجَبْناهم عَنْ أذى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالظُّلْمَةِ لَمّا قَصَدُوهُ بِالأذى قَوْلُهُ تَعالى ﴿فَأغْشَيْناهُمْ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أغَشِيَنا عُيُونَهم وأعْمَيْناهم عَنِ الهُدى. وَقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ: "فَأعْشَيْناهُمْ" بِعَيْنٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ. ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ الإنْذارَ لا يَنْفَعُهم لِإضْلالِهِ إيّاهم بِالآَيَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ. ثُمَّ أخْبَرَ عَمَّنْ يَنْفَعُهُ الإنْذارُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما تُنْذِرُ﴾ أيْ: إنَّما يَنْفَعُ إنْذارُكَ ﴿مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ وهو القُرْآَنُ، فَعَمِلَ بِهِ ﴿وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالغَيْبِ﴾ وقَدْ شَرَحْناهُ في [الأنْبِياءِ: ٤٩]، والأجْرُ الكَرِيمُ: الحَسَنُ، وهو الجَنَّةُ. ﴿إنّا نَحْنُ نُحْيِي المَوْتى﴾ لِلْبَعْثِ ﴿وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا﴾ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ في دُنْياهم. وقَرَأ النَّخْعِيُّ، والجَحْدَرِيُّ: "وَيَكْتُبُ" بِياءٍ مَرْفُوعَةٍ وفَتْحِ التّاءِ "وَآَثارَهُمْ" بِرَفْعِ الرّاءِ. وَفِي آَثارِهم ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّها خُطاهم بِأرْجُلِهِمْ، قالَهُ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. قالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: «شَكَتْ بَنُو سَلَمَةَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بُعْدَ مَنازِلِهِمْ مِنَ المَسْجِدِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهُمْ﴾ فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: "عَلَيْكم مَنازِلَكُمْ، فَإنَّما تُكْتَبُ آَثارُكُمْ"،» وقالَ قَتادَةُ وعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: لَوْ كانَ اللَّهُ مُغْفِلًا شَيْئًا، لَأغْفَلَ ما تُعْفِي الرِّياحُ مِن أثَرِ قَدِمِ ابْنِ آَدَمَ. (p-٩)والثّانِي: أنَّها الخُطا إلى الجُمُعَةِ، قالَهُ أنَسُ بْنُ مالِكٍ. والثّالِثُ: ما أثَرُوا مِن سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أوْ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُ بِها بَعْدَهُمْ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، واخْتارَهُ الفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ، والزَّجّاجُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ﴾ وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: "وَكُلُّ" بِرَفْعِ اللّامِ، أيْ: مِنَ الأعْمالِ ﴿أحْصَيْناهُ﴾ أيْ: حَفِظْناهُ ﴿فِي إمامٍ مُبِينٍ﴾ وهو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب