الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ( لِقَدٍّ كانَ لِسَبَإ في مَساكِنِهِمْ آيَة ) قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، (p-٤٤٠)وَنافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: " في مَساكِنِهِمْ " . وقَرَأ حَمْزَةُ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: " مَسْكَنِهِمْ " بِفَتْحِ الكافِ مِن غَيْرِ ألِفٍ. وقَرَأ الكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: " مَسْكِنِهِمْ " بِكَسْرِ الكافِ، وهي لُغَةٌ.
قالَ المُفَسِّرُونَ: المُرادُ بِسَبَإٍ هاهُنا: القَبِيلَةُ الَّتِي هم مِن أوْلادِ سَبَإ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطانَ؛ وقَدْ ذَكَرْنا في سُورَةِ (النَّمْلِ: ٢٢) الخِلافَ في هَذا، وأنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: هو اسْمُ بَلَدٍ، ولَيْسَ بِاسْمِ رَجُلٍ. وذَكَرَ الزَّجّاجُ في هَذا المَكانِ أنَّ مَن قَرَأ: " لِسَبَأ " بِالفَتْحِ وتَرْكِ الصَّرْفِ، جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ، ومَن صَرَفَ وكَسَرَ ونَوَّنَ، جَعَلَهُ اسْمًا لِلْحَيِّ واسْمًا لِرَجُلٍ؛ وكُلٌّ جائِزٌ حَسَنٌ. و ﴿آيَةٌ﴾ رَفْعٌ، اسْمُ " كانَ "، و ﴿جَنَّتانِ﴾ رَفْعٌ عَلى نَوْعَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّهُ بَدَلٌ مِن " آيَةٌ "، والثّانِي: عَلى إضْمارٍ، كَأنَّهُ لَمّا قِيلَ: " آيَةٌ "، قِيلَ: الآيَةُ جَنَّتانِ.
الإشارَةُ إلى قِصَّتِهِمْ
ذَكَرَ العُلَماءُ بِالتَّفْسِيرِ والسِّيَرِ أنَّ بِلْقِيسَ لَمّا مَلَكَتْ [قَوْمَها] جَعَلَ قَوْمُها يَقْتَتِلُونَ عَلى ماءِ وادِيهِمْ، فَجَعَلَتْ تَنْهاهم فَلا يُطِيعُونَها، فَتَرَكَتْ مُلْكَها وانْطَلَقَتْ إلى قَصْرِها فَنَزَلْتُهُ، فَلَمّا كَثُرَ الشَّرُّ بَيْنَهم ونَدِمُوا، أتَوْها فَأرادُوها عَلى أنْ تَرْجِعَ إلى مُلْكِها، فَأبَتْ، فَقالُوا: لِتَرْجِعِنَّ أوْ لَنَقْتُلَنَّكِ، فَقالَتْ: إنَّكم لا تُطِيعُونَنِي ولَيْسَتْ لَكم عُقُولٌ، فَقالُوا: فَإنّا نُطِيعُكِ، فَجاءَتْ إلى وادِيهِمْ- وكانُوا (p-٤٤٤)إذا مُطِرُوا أتاهُ السَّيْلُ مِن مَسِيرَةِ أيّامٍ- فَأمَرَتْ بِهِ، فَسُدَّ ما بَيْنَ الجَبَلَيْنِ بِمُسَنّاةٍ، وحَبَسَتِ الماءَ مِن وراءِ السَّدِّ، وجَعَلَتْ لَهُ أبْوابًا بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، وبَنَتْ مِن دُونِهِ بِرْكَةً وجَعَلَتْ فِيها اثْنَيْ عَشَرَ مَخْرَجًا عَلى عِدَّةِ أنْهارِهِمْ، فَكانَ الماءُ يَخْرُجُ بَيْنَهم بِالسَّوِيَّةِ، إلى أنْ كانَ مِن شَأْنِها مَعَ سُلَيْمانَ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ [النَّمْلِ: ٢٩- ٤٤]، وبَقُوا بَعْدَها عَلى حالِهِمْ. وقِيلَ: إنَّما بَنَوْا ذَلِكَ البُنْيانَ لِئَلّا يَغْشى السَّيْلُ أمْوالَهم فَيُهْلِكَها، فَكانُوا يَفْتَحُونَ مِن أبْوابِ السَّدِّ ما يُرِيدُونَ، فَيَأْخُذُونَ مِنَ الماءِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ، وكانَتْ لَهم جَنَّتانِ عَنْ يَمِينِ وادِيهِمْ وعَنْ شِمالِهِ، فَأخْصَبَتْ أرْضُهُمْ، وكَثُرَتْ فَواكِهُهُمْ، وإنْ كانَتِ المَرْأةُ لَتَمُرُّ بَيْنَ الجَنَّتَيْنِ والمِكْتَلُ عَلى رَأْسِها، فَتَرْجِعُ وقَدِ امْتَلَأ مِنَ الثَّمَرِ ولا تَمَسُّ بِيَدِها شَيْئًا مِنهُ، ولَمْ يَكُنْ [يُرى] في بَلَدِهِمْ حَيَّةٌ ولا عَقْرَبٌ ولا بَعُوضَةٌ ولا ذُبابٌ ولا بُرْغُوثٌ، ويَمُرُّ الغَرِيبُ بِبَلْدَتِهِمْ وفي ثِيابِهِ القَمْلُ، فَيَمُوتُ القَمْلُ لِطِيبِ هَوائِها. وقِيلَ لَهُمْ: ﴿كُلُوا مِن رِزْقِ رَبِّكم واشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ﴾ أيْ: هَذِهِ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، أوْ بَلْدَتُكم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ، ولَمْ تَكُنْ سَبِخَةً ولا فِيها ما يُؤْذِي ﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ أيْ: واللَّهُ رَبٌّ غَفُورٌ، وكانَتْ ثَلاثَ عَشْرَةَ قَرْيَةً، فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِمْ ثَلاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا، فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، ولَمْ يُقِرُّوا بِنِعَمِ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَأعْرَضُوا﴾ أيْ: عَنِ الحَقِّ، وكَذَّبُوا أنْبِياءَهم ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ﴾ وفِيهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ.
(p-٤٤٥)أحَدُها: أنَّ العَرِمَ: الشَّدِيدُ، رَواهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: العَرِمُ: السَّيْلُ الَّذِي لا يُطاقُ.
والثّانِي: [أنَّهُ] اسْمُ الوادِي، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ، والضَّحّاكُ، ومُقاتِلٌ.
والثّالِثُ: أنَّهُ المُسَنّاةُ، قالَهُ مُجاهِدٌ، وأبُو مَيْسَرَةَ، والفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: العَرِمُ: جَمْعُ عِرَمَةٍ، وهِيَ: السِّكْرُ والمُسَنّاةُ.
والرّابِعُ: أنَّ العَرِمَ: الجُرَذُ الَّذِي نَقَبَ عَلَيْهِمُ السِّكْرَ، حَكاهُ الزَّجّاجُ.
وَفِي صِفَةِ إرْسالِ هَذا السَّيْلِ عَلَيْهِمْ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ تَعالى بَعَثَ عَلى سِكْرِهِمْ دابَّةً مِنَ الأرْضِ فَنَقَبَتْ فِيهِ نَقْبًا، فَسالَ ذَلِكَ الماءُ إلى مَوْضِعٍ غَيْرِ المَوْضِعِ الَّذِي كانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ قَتادَةُ والضَّحّاكُ في آخَرِينَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُرَذًا يُسَمّى الخُلْدَ- والخُلْدُ: الفَأْرُ الأعْمى- فَنَقَبَهُ مِن أسْفَلِهِ، فَأغْرَقَ اللَّهُ [بِهِ] جَنّاتِهِمْ، وخَرَّبَ بِهِ أرْضَهم.
والثّانِي: أنَّهُ أرْسَلَ عَلَيْهِمْ ماءً أحْمَرَ، أرْسَلَهُ في السَّدِّ فَنَسَفَهُ وهَدَمَهُ وحَفَرَ الوادِيَ، ولَمْ يَكُنِ الماءُ أحْمَرَ مِنَ السَّدِّ، وإنَّما كانَ سَيْلًا أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ، قالَهُ مُجاهِدٌ.
قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَبَدَّلْناهم بِجَنَّتَيْهِمْ﴾ يَعْنِي اللَّتَيْنِ تُطْعِمانِ الفَواكِهَ ﴿جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وعاصِمٌ، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: " أُكُلٍ " بِالتَّنْوِينِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: " أُكُلِ " بِالإضافَةِ. وخَفَّفَ الكافَ ابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ، وثَقَّلَها الباقُونَ. أمّا الأُكُلُ، فَهو الثَّمَرُ.
وَفِي المُرادِ بِـ الخَمْطِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. (p-٤٤٦)أحَدُها: أنَّهُ الأراكُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، والجُمْهُورُ؛ فَعَلى هَذا، أُكُلُهُ: ثَمَرُهُ؛ ويُسَمّى ثَمَرُ الأراكِ: البَرِيرَ.
والثّانِي: أنَّهُ كُلُّ شَجَرَةٍ ذاتِ شَوْكٍ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ.
والثّالِثُ: أنَّهُ كُلُّ نَبْتٍ قَدْ أخَذَ طَعْمًا مِنَ المَرارَةِ حَتّى لا يُمْكِنَ أكْلُهُ، قالَهُ المُبَرِّدُ والزَّجّاجُ. فَعَلى هَذا القَوْلِ، الخَمْطُ: اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ، فَيَحْسُنُ عَلى هَذا قِراءَةُ مَن نَوَّنَ الأُكُلَ؛ وعَلى ما قَبْلَهُ، هو اسْمُ شَجَرَةٍ، والأُكُلُ ثَمَرُها، فَيَحْسُنُ قِراءَةُ مَن أضافَ.
فَأمّا الأثْلُ، فَفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ الطَّرْفاءُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّهُ السَّمُرَ، حَكاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. والثّالِثُ: أنَّهُ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطُّرَفاءَ إلّا أنَّهُ أعْظَمُ مِنهُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَشَيْءٍ مِن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ فِيهِ تَقْدِيمٌ، وتَقْدِيرُهُ: وشَيْءٌ قَلِيلٌ مِن سِدْرٍ، وهو شَجَرُ النَّبْقِ. والمَعْنى أنَّهُ كانَ الخَمْطُ والأثْلُ في جَنَّتَيْهِمْ (p-٤٤٧)أكْثَرَ مِنَ السِّدْرِ. قالَ قَتادَةُ: بَيْنا شَجَرُهم مِن خَيْرِ الشَّجَرِ، إذْ صَيَّرَهُ اللَّهُ مِن شَرِّ الشَّجَرِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذَلِكَ جَزَيْناهُمْ﴾ أيْ: ذَلِكَ التَّبْدِيلَ جَزَيْناهم ﴿بِما كَفَرُوا وهَلْ نُجازِي إلا الكَفُورَ﴾ .
فَإنْ قِيلَ: قَدْ يُجازى المُؤْمِنُ والكافِرُ، فَما مَعْنى هَذا التَّخْصِيصِ؟ فَعَنْهُ جَوابانِ.
أحَدُهُما: أنَّ المُؤْمِنَ يُجْزى ولا يُجازى، فَيُقالُ في أفْصَحِ اللُّغَةِ: جَزى اللَّهُ المُؤْمِنَ، ولا يُقالُ: جازاهُ، لِأنَّ " جازاهُ " بِمَعْنى كافَأهُ، فالكافِرُ يُجازى بِسَيِّئَتِهِ مِثْلَها، مُكافَأةً لَهُ، والمُؤْمِنُ يُزادُ في الثَّوابِ ويُتَفَضَّلُ عَلَيْهِ، هَذا قَوْلُ الفَرّاءُ.
والثّانِي: أنَّ الكافِرَ لَيْسَتْ لَهُ حَسَنَةٌ تُكَفِّرُ ذُنُوبَهُ، فَهو يُجازى بِجَمِيعِ الذُّنُوبِ، والمُؤْمِنُ قَدْ أحْبَطَتْ حَسَناتُهُ سَيِّئاتِهِ، هَذا قَوْلُ الزَّجّاجِ. وقالَ طاوُوسٌ: الكافِرُ يُجازى ولا يُغْفَرُ لَهُ، والمُؤْمِنُ لا يُناقَشُ الحِسابَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ﴾ هَذا مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ﴾؛ والمَعْنى: كانَ مِن قِصَصِهِمْ أنّا جَعَلْنا بَيْنَهم ﴿وَبَيْنَ القُرى الَّتِي (p-٤٤٨)بارَكْنا فِيها﴾ وهِيَ: قُرى الشّامِ؛ وقَدْ سَبَقَ بَيانُ مَعْنى البَرَكَةِ فِيها [الأنْبِياءِ: ٧١] هَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وحَكى ابْنُ السّائِبِ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أهْلَكَ جَنَّتَيْهِمْ قالُوا لِلرُّسُلِ: قَدْ عَرَفْنا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْنا، فَلَئِنْ رَدَّ إلَيْنا ما كُنّا عَلَيْهِ لَنَعْبُدَنَّهُ عِبادَةً شَدِيدَةً، فَرَدَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ، وجَعَلَ لَهم قُرًى ظاهِرَةً فَعادُوا إلى الفَسادِ وقالُوا: باعِدْ بَيْنَ أسْفارِنا، فَمُزِّقُوا.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُرًى ظاهِرَةً﴾ أيْ: مُتَواصِلَةٌ يَنْظُرُ بَعْضُها إلى بَعْضٍ ﴿وَقَدَّرْنا فِيها السَّيْرَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّهم كانُوا يَغْدُونَ فَيَقِيلُونَ في قَرْيَةٍ، ويَرُوحُونَ فَيَبِيتُونَ في قَرْيَةٍ، قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ.
والثّانِي: أنَّهُ جَعَلَ ما بَيْنَ القَرْيَةِ والقَرْيَةِ مِقْدارًا واحِدًا، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سِيرُوا فِيها﴾ والمَعْنى: وقُلْنا لَهُمْ: سِيرُوا فِيها ﴿لَيالِيَ وأيّامًا﴾ أيْ: لَيْلًا ونَهارًا ﴿آمِنِينَ﴾ مِن مَخاوِفِ السَّفَرِ مِن جُوعٍ أوْ عَطَشٍ أوْ سَبُعٍ أوْ تَعَبٍ. وكانُوا يَسِيرُونَ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ في أمانٍ، فَبَطَرُوا النِّعْمَةَ ومَلُّوها كَما مَلَّ بَنُو إسْرائِيلَ المَنَّ والسَّلْوى فَقالُوا رَبَّنا بَعِّدْ بَيْنَ أسْفارِنا قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو: " بَعِّدْ " بِتَشْدِيدِ العَيْنِ وكَسْرِها. وقَرَأ نافِعٌ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ: " باعِدْ " بِألِفٍ وكَسْرِ العَيْنِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ كالقِراءَتَيْنِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: إنَّهم قالُوا: لَوْ كانَتْ جَنّاتُنا أبْعَدَ مِمّا هِيَ، كانَ أجْدَرَ أنْ يُشْتَهى جَناها. قالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: لَمّا ذَكَّرَتْهُمُ الرُّسُلُ نِعَمَ اللَّهِ، أنْكَرُوا أنْ يَكُونَ ما هم فِيهِ نِعْمَةً، (p-٤٤٩)وَسَألُوا اللَّهَ أنْ يُباعِدَ بَيْنَ أسْفارِهِمْ. وقَرَأ يَعْقُوبُ: [ " رَبُّنا " بِرَفْعِ الباءِ] " باعَدَ " بِفَتْحِ العَيْنِ والدّالِ، جَعَلَهُ فِعْلًا ماضِيًا عَلى طَرِيقِ الإخْبارِ لِلنّاسِ بِما أنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بِهِمْ. وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ [السُّلَمِيُّ]، وأبُو رَجاءٍ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: " بَعُدَ " بِرَفْعِ العَيْنِ وتَخْفِيفِها وفَتْحِ الدّالِ مِن غَيْرِ ألِفٍ، عَلى طَرِيقِ الشِّكايَةِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وأبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: " بُوعِدَ " بِرَفْعِ الباءِ وبِواوٍ ساكِنَةٍ مَعَ كَسْرِ العَيْنِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: بِالكُفْرِ وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. والثّانِي: بِقَوْلِهِمْ " بَعِّدْ بَيْنَ أسْفارِنا " .
﴿فَجَعَلْناهم أحادِيثَ﴾ لِمَن بَعْدَهم يَتَحَدَّثُونَ بِما فُعِلَ بِهِمْ ﴿وَمَزَّقْناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أيْ: فَرَّقْناهم في كُلِّ وجْهٍ مِنَ البِلادِ كُلَّ التَّفْرِيقِ، لِأنَّ اللَّهَ لَمّا غَرَّقَ مَكانَهم وأذْهَبَ جَنَّتَيْهِمْ تَبَدَّدُوا في البِلادِ، فَصارَتِ العَرَبُ تَتَمَثَّلُ في الفِرْقَةِ بِسَبَأٍ ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيْ: فِيما فُعِلَ بِهِمْ ﴿لآياتٍ﴾ أيْ: لَعِبَرًا ﴿لِكُلِّ صَبّارٍ﴾ عَنْ مَعاصِي اللَّهِ ﴿شَكُورٍ﴾ لِنِعَمِهِ،
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ " عَلَيْهِمْ " بِمَعْنى " فِيهِمْ "، (p-٤٥٠)وَصِدْقُهُ في ظَنِّهِ أنَّهُ ظَنَّ بِهِمْ أنَّهم يَتَّبِعُونَهُ إذْ أغْواهُمْ، فَوَجَدَهم كَذَلِكَ. وإنَّما قالَ: ﴿وَلأُضِلَّنَّهم ولأُمَنِّيَنَّهُمْ﴾ [النِّساءِ: ١١٩] بِالظَّنِّ، لا بِالعِلْمِ، فَمَن قَرَأ: " صَدَّقَ " بِتَشْدِيدِ الدّالِ، فالمَعْنى: حَقَّقَ ما ظَنَّهُ فِيهِمْ بِما فُعِلَ بِهِمْ؛ ومَن قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ، فالمَعْنى: صَدَقَ عَلَيْهِمْ في ظَنِّهِ بِهِمْ.
وَفِي المُشارِ إلَيْهِمْ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّهم أهْلُ سَبَإٍ. والثّانِي: سائِرُ المُطِيعِينَ لِإبْلِيسَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِن سُلْطانٍ﴾ قَدْ شَرَحْناهُ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الحِجْرِ: ٤٢ قالَ الحَسَنُ: واللَّهِ ما ضَرَبَهم بِعَصًا ولا قَهْرَهم عَلى شَيْءٍ إلّا أنَّهُ دَعاهم إلى الأمانِيِّ والغُرُورِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا لِنَعْلَمَ﴾ أيْ: ما كانَ تَسْلِيطُنا إيّاهُ إلّا لِنَعْلَمَ المُؤْمِنِينَ مِنَ الشّاكِّينَ. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: " إلّا لِيُعْلَمَ " بِياءٍ مَرْفُوعَةٍ عَلى ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ. وقَرَأ ابْنُ يَعْمَرَ: " لِيَعْلَمَ " بِفَتْحِ الياءِ.
وَفِي المُرادِ بِعِلْمِهِ هاهُنا ثَلاثَةُ أقْوالٍ ٍ قَدْ شَرَحْناهُ في أوَّلِ (العَنْكَبُوتِ: ٣) .
﴿وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ مِنَ الشَّكِّ والإيمانِ ﴿حَفِيظٌ﴾، وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: والحَفِيظُ بِمَعْنى الحافِظِ. قالَ الخَطّابِيُّ: وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ، كالقَدِيرِ، والعَلِيمِ، فَهو يَحْفَظُ السَّماواتِ والأرْضَ بِما فِيها لِتَبْقى مُدَّةَ بَقائِها، ويَحْفَظَ عِبادَهُ مِنَ (p-٤٥١)المَهالِكِ، ويَحْفَظَ عَلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ، ويَعْلَمَ نِيّاتِهِمْ، ويَحْفَظَ أوْلِياءَهُ عَنْ مُواقَعَةِ الذُّنُوبِ، ويَحْرُسُهم مِن مَكايِدِ الشَّيْطانِ.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإࣲ فِی مَسۡكَنِهِمۡ ءَایَةࣱۖ جَنَّتَانِ عَن یَمِینࣲ وَشِمَالࣲۖ كُلُوا۟ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُوا۟ لَهُۥۚ بَلۡدَةࣱ طَیِّبَةࣱ وَرَبٌّ غَفُورࣱ","فَأَعۡرَضُوا۟ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سَیۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَـٰهُم بِجَنَّتَیۡهِمۡ جَنَّتَیۡنِ ذَوَاتَیۡ أُكُلٍ خَمۡطࣲ وَأَثۡلࣲ وَشَیۡءࣲ مِّن سِدۡرࣲ قَلِیلࣲ","ذَ ٰلِكَ جَزَیۡنَـٰهُم بِمَا كَفَرُوا۟ۖ وَهَلۡ نُجَـٰزِیۤ إِلَّا ٱلۡكَفُورَ","وَجَعَلۡنَا بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ ٱلۡقُرَى ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَا قُرࣰى ظَـٰهِرَةࣰ وَقَدَّرۡنَا فِیهَا ٱلسَّیۡرَۖ سِیرُوا۟ فِیهَا لَیَالِیَ وَأَیَّامًا ءَامِنِینَ","فَقَالُوا۟ رَبَّنَا بَـٰعِدۡ بَیۡنَ أَسۡفَارِنَا وَظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ فَجَعَلۡنَـٰهُمۡ أَحَادِیثَ وَمَزَّقۡنَـٰهُمۡ كُلَّ مُمَزَّقٍۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّكُلِّ صَبَّارࣲ شَكُورࣲ","وَلَقَدۡ صَدَّقَ عَلَیۡهِمۡ إِبۡلِیسُ ظَنَّهُۥ فَٱتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","وَمَا كَانَ لَهُۥ عَلَیۡهِم مِّن سُلۡطَـٰنٍ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن یُؤۡمِنُ بِٱلۡـَٔاخِرَةِ مِمَّنۡ هُوَ مِنۡهَا فِی شَكࣲّۗ وَرَبُّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ حَفِیظࣱ"],"ayah":"فَأَعۡرَضُوا۟ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ سَیۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَـٰهُم بِجَنَّتَیۡهِمۡ جَنَّتَیۡنِ ذَوَاتَیۡ أُكُلٍ خَمۡطࣲ وَأَثۡلࣲ وَشَیۡءࣲ مِّن سِدۡرࣲ قَلِیلࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











