الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذْ أخَذْنا﴾ المَعْنى: واذْكُرْ إذْ أخَذْنا ﴿مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ﴾ أيْ: عَهْدَهُمْ؛ وفِيهِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أخْذُ مِيثاقِ النَّبِيِّينَ: أنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهم بَعْضًا، قالَهُ قَتادَةُ. والثّانِي: أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ ويَدْعُوا إلى عِبادَتِهِ، ويُصَدِّقَ بَعْضُهم بَعْضًا، وأنْ يَنْصَحُوا لِقَوْمِهِمْ، قالَهُ مُقاتِلٌ. (p-٣٥٥)وَهَذا المِيثاقُ أُخِذَ مِنهم حِينَ أُخْرِجُوا مِن ظَهْرِ آدَمَ كالذَّرِّ. قالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: لَمّا أخَذَ مِيثاقَ الخَلْقِ خَصَّ النَّبِيِّينَ بِمِيثاقٍ آخَرَ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ خَصَّ الأنْبِياءَ الخَمْسَةَ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الأنْبِياءِ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ نَبَّهَ بِذَلِكَ عَلى فَضْلِهِمْ، لِأنَّهَمَّ أصْحابُ الكُتُبِ والشَّرائِعِ؛ وقَدَّمَ نَبِيِّنا ﷺ بَيانًا لِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ. قالَ قَتادَةُ: كانَ نَبِيُّنا أوَّلَ النَّبِيِّينَ في الخَلْقِ. وَقَوْلُهُ: ﴿مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ أيْ: شَدِيدًا عَلى الوَفاءِ بِما حُمِلُوا. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ أنَّ ذَلِكَ العَهْدَ الشَّدِيدَ: اليَمِينُ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ.(p-٣٥٦) لِيَسْألَ الصّادِقِينَ يَقُولُ: أخَذْنا مِيثاقَهم لِكَيْ نَسْألَ الصّادِقِينَ، وهُمُ الأنْبِياءُ ﴿عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ في تَبْلِيغِهِمْ. ومَعْنى سُؤالِ الأنْبِياءِ- وهو يُعْلَمُ صِدْقَهُمْ- تَبْكِيتُ مُكَذِّبِيهِمْ. وها هُنا تَمَّ الكَلامُ. ثُمَّ أخْبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ عَمّا أعَدَّ لِلْكافِرِينَ بِالرُّسُلِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جاءَتْكم جُنُودٌ﴾ وهْمُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أيّامَ الخَنْدَقِ. الإشارَةُ إلى القِصَّةِ ذَكَرَ أهْلُ العِلْمِ بِالسِّيرَةِ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمّا أجْلى بَنِي النَّضِيرِ، سارُوا إلى خَيْبَرَ، فَخَرَجَ نَفَرٌ مِن أشْرافِهِمْ إلى مَكَّةَ فَألَّبُوا قُرَيْشًا ودَعَوْهم إلى الخُرُوجِ لِقِتالِهِ، ثُمَّ خَرَجُوا مِن عِنْدِهِمْ فَأتَوْا غَطَفانَ وسُلَيْمَ، فَفارَقُوهم عَلى مِثْلِ ذَلِكَ. وتَجَهَّزَتْ قُرَيْشٌ ومَن تَبِعَهم مِنَ العَرَبِ، فَكانُوا أرْبَعَةَ آلافٍ، وخَرَجُوا يَقُودُهم أبُو سُفْيانَ، ووافَتْهم بَنُو سُلَيْمَ بِـ " مَرِّ الظَّهْرانِ "، وخَرَجَتْ بَنُو أسَدٍ، وفِزارَةُ، وأشْجَعُ، وبَنُو مُرَّةَ، فَكانَ جَمِيعُ مَن وافى الخَنْدَقَ مِنَ القَبائِلِ عَشَرَةَ آلافٍ، وهُمُ الأحْزابُ؛ فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خُرُوجُهم مِن مَكَّةَ، أخْبَرَ النّاسَ خَبَرَهُمْ، وشاوَرَهُمْ، فَأشارَ سَلْمانُ بِالخَنْدَقِ، فَأعْجَبَ ذَلِكَ المُسْلِمِينَ، وعَسْكَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى سَفْحِ " سَلْعٍ "، وجَعَلَ سَلْعًا خَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ودَسَّ أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ حُيَيَّ بْنَ أخْطَبَ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ يَسْألُهم أنْ يَنْقُضُوا العَهْدَ الَّذِي بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ويَكُونُوا مَعَهم عَلَيْهِ، فَأجابُوا، واشْتَدَّ الخَوْفُ، وعَظُمَ البَلاءُ، ثُمَّ جَرَتْ بَيْنَهم مُناوَشَةٌ وقِتالٌ، وحُصِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتّى خَلَصَ (p-٣٥٧)إلَيْهِمُ الكَرْبُ، وكانَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الأشْجَعِيُّ قَدْ أسْلَمَ، فَمَشى بَيْنَ قُرَيْشٍ وقُرَيْظَةَ وغَطَفانَ فَخَذَّلَ بَيْنَهُمْ، فاسْتَوْحَشَ كُلٌّ مِنهم مِن صاحِبِهِ، واعْتَلَّتْ قُرَيْظَةُ بِالسَّبْتِ فَقالُوا: لا نُقاتِلُ فِيهِ، وهَبَّتْ لَيْلَةَ السَّبْتِ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقالَ أبُو سُفْيانَ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنَّكم واللَّهِ لَسْتُمْ بِدارِ مُقامٍ، لَقَدْ هَلَكَ الخُفُّ والحافِرُ، وأجْدَبَ الجَنابُ، وأخْلَفَتْنا قُرَيْظَةُ، ولَقِينا مِنَ الرِّيحِ ما تَرَوْنَ، فارْتَحِلُوا فَإنِّي مُرْتَحِلٌ؛ فَأصْبَحَتِ العَساكِرُ قَدْ أقْشَعَتْ كُلُّها.» قالَ مُجاهِدٌ: والرِّيحُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَيْهِمْ هي الصَّبا، حَتّى أكْفَأتْ قُدُورَهُمْ، ونَزَعَتْ فَساطِيطَهم. والجُنُودُ: المَلائِكَةُ، ولَمْ تُقاتِلْ يَوْمَئِذٍ. وقِيلَ: إنَّ المَلائِكَةَ جَعَلَتْ تَقْلَعُ أوْتادَهم وتُطْفِئُ نِيرانَهم وتُكَبِّرُ في جَوانِبِ عَسْكَرِهِمْ، فاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فانْهَزَمُوا مِن غَيْرِ قِتالٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَمْ تَرَوْها﴾ وقَرَأ النَّخَعِيُّ، والجَحْدَرِيُّ، والجَوْنِيُّ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ: " لَمْ يَرَوْها " بِالياءِ ﴿وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو: [ " يَعْمَلُونَ " ] بِالياءِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب