قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنهُمْ﴾ يَعْنِي مِنَ المُنافِقِينَ. وفي القائِلِينَ لِهَذا مِنهم قَوْلانِ. أحَدُهُما: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وأصْحابُهُ، قالَهُ السُّدِّيُّ. والثّانِي: بَنُو سالِمٍ مِنَ المُنافِقِينَ، قالَهُ مُقاتِلٌ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أهْلَ يَثْرِبَ﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يَثْرِبُ: اسْمُ أرْضٍ، ومَدِينَةُ النَّبِيِّ ﷺ في ناحِيَةٍ مِنها.
(p-٣٦٠)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا مُقامَ لَكُمْ﴾ وقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: ﴿لا مُقامَ﴾ بِضَمِّ المِيمِ. قالَ الزَّجّاجُ: مَن ضَمَّ المِيمَ، فالمَعْنى: لا إقامَةَ لَكُمْ؛ ومَن فَتَحَها، فالمَعْنى: لا مَكانَ لَكم تُقِيمُونَ فِيهِ. وهَؤُلاءِ كانُوا يُثَبِّطُونَ المُؤْمِنِينَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ .
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فارْجِعُوا﴾ أيْ: إلى المَدِينَةِ، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَرَجَ بِالمُسْلِمِينَ حَتّى عَسْكَرُوا بِـ " سَلْعٍ "، وجَعَلُوا الخَنْدَقَ بَيْنَهم وبَيْنَ القَوْمِ، فَقالَ المُنافِقُونَ لِلنّاسِ: لَيْسَ لَكم هاهُنا مُقامٌ، لِكَثْرَةِ العَدُوِّ، وهَذا قَوْلُ الجُمْهُورِ. وحَكى الماوَرْدِيُّ قَوْلَيْنِ [آخَرَيْنِ]
أحَدُهُما: لا مُقامَ لَكم عَلى دِينِ مُحَمَّدٍ فارْجِعُوا إلى دِينِ مُشْرِكِي العَرَبِ، قالَهُ الحَسَنُ.
والثّانِي: لا مُقامَ لَكم عَلى القِتالِ، فارْجِعُوا إلى طَلَبِ الأمانِ، قالَهُ الكَلْبِيُّ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنهُمُ النَّبِيَّ﴾ فِيهِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: أنَّهم بَنُو حارِثَةَ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: بَنُو حارِثَةَ بْنِ الحارِثِ بْنِ الخَزْرَجِ. وقالَ السُّدِّيُّ: إنَّما اسْتَأْذَنَهُ رَجُلانِ مِن بَنِي حارِثَةَ.
والثّانِي: بَنُو حارِثَةَ، وبَنُو سَلَمَةَ بْنِ جُشَمَ، قالَهُ مُقاتِلٌ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أيْ: خالِيَةٌ، فَقَدَ (p-٣٦١)أمْكَنَ مَن أرادَ دُخُولَها، وأصْلُ العَوْرَةِ: ما ذَهَبَ عَنْهُ السِّتْرُ والحِفْظُ، فَكَأنَّ الرِّجالَ سِتْرٌ وحِفْظٌ لِلْبُيُوتِ، فَإذا ذَهَبُوا أعْوَرَتِ البُيُوتُ، تَقُولُ العَرَبُ: أعْوَرَ مَنزِلِي: إذا ذَهَبَ سِتْرُهُ، أوْ سَقَطَ جِدارُهُ، وأعْوَرَ الفارِسُ: إذا بانَ مِنهُ مَوْضِعُ خَلَلٍ لِلضَّرْبِ والطَّعْنِ، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿وَما هي بِعَوْرَةٍ﴾ لِأنَّ اللَّهَ يَحْفَظُها، ولَكِنْ يُرِيدُونَ الفِرارَ. وقالَ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ: قالُوا: بُيُوتُنا ضائِعَةٌ نَخْشى عَلَيْها السُّرّاقَ. وقالَ قَتادَةُ: قالُوا بُيُوتُنا مِمّا يَلِي العَدُوَّ، ولا نَأْمَنُ عَلى أهْلِنا، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ وأعْلَمَ أنَّ قَصْدَهُمُ الفِرارُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِن أقْطارِها﴾ يَعْنِي المَدِينَةَ؛ والأقْطارُ: النَّواحِي والجَوانِبُ، واحِدُها: قُطْرٌ، ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ﴾ وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، والضَّحّاكُ، والزُّهْرِيُّ، وأبُو عِمْرانَ، وأبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: " ثُمَّ سُيِلُوا " بِرَفْعِ السِّينِ وكَسْرِ الياءِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، ومُجاهِدٌ، وأبُو الجَوْزاءِ: " ثُمَّ سُوءِلُوا " بِرَفْعِ السِّينِ ومَدِّ الواوِ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ بَعْدَها. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو الأشْهَبِ: " ثُمَّ سُولُوا " بِرَفْعِ السِّينِ وسُكُونِ الواوِ مِن غَيْرِ مَدٍّ ولا هَمْزٍ. وقَرَأ الأعْمَشُ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: " ثُمَّ سِيلُوا " بِكَسْرِ السِّينِ ساكِنَةَ الياءِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ ولا واوٍ. ومَعْنى: ﴿سُئِلُوا الفِتْنَةَ﴾، أيْ: سُئِلُوا فِعْلَها؛ [والفِتْنَةُ: الشِّرْكُ، (لَآتَوْها) ] قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ: " لَأتَوْها " بِالقَصْرِ، أيْ: لَقَصْدُوها، ولَفَعَلُوها. وقَرَأ عاصِمٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ: ﴿لآتَوْها﴾ بِالمَدِّ، أيْ: لَأعْطَوْها. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ في مَعْنى الآيَةِ: لَوْ أنَّ الأحْزابَ دَخَلُوا المَدِينَةَ ثُمَّ أمَرُوهم بِالشِّرْكِ لَأشْرَكُوا.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما تَلَبَّثُوا بِها إلا يَسِيرًا﴾ فِيهِ قَوْلانِ.
أحَدُهُما: وما احْتَبَسُوا عَنِ الإجابَةِ إلى الكُفْرِ إلّا قَلِيلًا، قالَهُ قَتادَةُ.
(p-٣٦٢)والثّانِي: وما تَلَبَّثُوا بِالمَدِينَةِ بَعْدَ الإجابَةِ إلّا يَسِيرًا حَتّى يُعَذَّبُوا، قالَهُ السُّدِّيُّ، وحَكى أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ في الآيَةِ قَوْلًا عَجِيبًا، وهو أنَّ الفِتْنَةَ هاهُنا: الحَرْبُ، والمَعْنى: ولَوْ دُخِلَتِ المَدِينَةُ عَلى أهْلِها مِن أقْطارِها، ثُمَّ سُئِلَ هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ الحَرْبَ لَأتَوْها مُبادِرِينَ، وما تَلَبَّثُوا- يَعْنِي الجُيُوشَ الدّاخِلَةَ عَلَيْهِمْ بِها- إلّا قَلِيلًا حَتّى يُخْرِجُوهم مِنها؛ وإنَّما مَنَعَهم مِنَ القِتالِ مَعَكَ ما قَدْ تَداخَلَهم مِنَ الشَّكِّ في دِينِكَ؛ قالَ: وهَذا المَعْنى حَفِظْتُهُ مِن كِتابِ الواقِدِيِّ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ﴾ في وقْتِ مُعاهَدَتِهِمْ ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهم ناسٌ غابُوا عَنْ وقْعَةِ بَدْرٍ، فَلَمّا عَلِمُوا ما أعْطى اللَّهُ أهْلَ بَدْرٍ مِنَ الكَرامَةِ قالُوا: لَئِنْ شَهِدْنا قِتالًا لَنُقاتِلَنَّ، قالَهُ قَتادَةُ.
(p-٣٦٣)والثّانِي: أنَّهم أهْلُ العَقَبَةِ، وهم سَبْعُونَ رَجُلًا بايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلى طاعَةِ اللَّهِ ونُصْرَةِ رَسُولِهِ، قالَهُ مُقاتِلٌ.
والثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا نَزَلَ بِالمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ ما نَزَلَ، عاهَدَ اللَّهَ مَعْتِبُ بْنُ قُشَيْرٍ وثَعْلَبَةُ بْنُ حاطِبٍ: لا نُوَلِّي دُبُرًا قَطُّ، فَلَمّا كانَ يَوْمُ الأحْزابِ نافَقا، قالَهُ الواقِدِيُّ، واخْتارَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ، وهو ألْيَقُ مِمّا قَبْلَهُ. وإذا كانَ الكَلامُ في حَقِّ المُنافِقِينَ، فَكَيْفَ يُطْلَقُ القَوْلُ عَلى أهْلِ العَقَبَةِ كُلِّهِمْ!
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولا﴾ أيْ: يُسْألُونَ عَنْهُ في الآخِرَةِ.
ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ الفِرارَ لا يَزِيدُ في آجالِهِمْ، فَقالَ: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ وإذًا لا تُمَتَّعُونَ﴾ بَعْدَ الفِرارِ في الدُّنْيا ﴿إلا قَلِيلا﴾ وهو باقِي آجالِكم.
ثُمَّ أخْبَرَ أنَّ ما قَدَّرَهُ عَلَيْهِمْ لا يُدْفَعُ، بِقَوْلِهِ: ﴿مَن ذا الَّذِي يَعْصِمُكم مَن اللَّهِ﴾ أيْ: يُجِيرُكم ويَمْنَعُكم مِنهُ ﴿إنْ أرادَ بِكم سُوءًا﴾ وهو الإهْلاكُ والهَزِيمَةُ والبَلاءُ ﴿أوْ أرادَ بِكم رَحْمَةً﴾ وهي النَّصْرُ والعافِيَةُ والسَّلامَةُ ﴿وَلا يَجِدُونَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا ولا نَصِيرًا﴾ أيْ: لا يَجِدُونَ مُوالِيًا ولا ناصِرًا يَمْنَعُهم مِن مُرادِ اللَّهِ فِيهِمْ.
{"ayahs_start":13,"ayahs":["وَإِذۡ قَالَت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡهُمۡ یَـٰۤأَهۡلَ یَثۡرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمۡ فَٱرۡجِعُوا۟ۚ وَیَسۡتَـٔۡذِنُ فَرِیقࣱ مِّنۡهُمُ ٱلنَّبِیَّ یَقُولُونَ إِنَّ بُیُوتَنَا عَوۡرَةࣱ وَمَا هِیَ بِعَوۡرَةٍۖ إِن یُرِیدُونَ إِلَّا فِرَارࣰا","وَلَوۡ دُخِلَتۡ عَلَیۡهِم مِّنۡ أَقۡطَارِهَا ثُمَّ سُىِٕلُوا۟ ٱلۡفِتۡنَةَ لَـَٔاتَوۡهَا وَمَا تَلَبَّثُوا۟ بِهَاۤ إِلَّا یَسِیرࣰا","وَلَقَدۡ كَانُوا۟ عَـٰهَدُوا۟ ٱللَّهَ مِن قَبۡلُ لَا یُوَلُّونَ ٱلۡأَدۡبَـٰرَۚ وَكَانَ عَهۡدُ ٱللَّهِ مَسۡـُٔولࣰا","قُل لَّن یَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذࣰا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا","قُلۡ مَن ذَا ٱلَّذِی یَعۡصِمُكُم مِّنَ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَ بِكُمۡ سُوۤءًا أَوۡ أَرَادَ بِكُمۡ رَحۡمَةࣰۚ وَلَا یَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا"],"ayah":"قُل لَّن یَنفَعَكُمُ ٱلۡفِرَارُ إِن فَرَرۡتُم مِّنَ ٱلۡمَوۡتِ أَوِ ٱلۡقَتۡلِ وَإِذࣰا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا"}