الباحث القرآني

(p-٣١٤)سُورَةُ لُقْمانَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ في قَوْلِ الأكْثَرِينَ. ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ أنَّهُ قالَ: هي مَكِّيَّةٌ سِوى آيَتَيْنِ مِنها نَزَلَتا بِالمَدِينَةِ، وهُما قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ أنَّما في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أقْلامٌ﴾ والَّتِي بَعْدَها [لُقْمانَ: ٢٧، ٢٨]؛ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: إلّا آيَةً نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ [لُقْمانَ: ٤]، لِأنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ مَدَنِيَّتانِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُدًى ورَحْمَةً﴾ وقَرَأ حَمْزَةُ وحْدَهُ: " ورَحْمَةٌ " بِالرَّفْعِ. قالَ الزَّجّاجُ: القِراءَةُ بِالنَّصْبِ عَلى الحالِ؛ والمَعْنى: تِلْكَ آياتُ الكِتابِ في حال الهِدايَةِ والرَّحْمَةِ؛ ويَجُوزُ الرَّفْعُ عَلى إضْمارِ " هو هُدًى ورَحْمَةٌ " وعَلى مَعْنى: " تِلْكَ هُدًى ورَحْمَةٌ " . وقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُ مُفْتَتَحِ هَذِهِ السُّورَةِ [البَقَرَةِ: ١-٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في رَجُلٍ اشْتَرى جارِيَةً مُغَنِّيَةٍ. وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتْ في شِراءِ القِيانِ والمُغَنِّياتِ. وقالَ ابْنُ السّائِبِ ومُقاتِلٌ: نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، وذَلِكَ أنَّهُ كانَ (p-٣١٦)تاجِرًا إلى فارِسَ، فَكانَ يَشْتَرِي أخْبارَ الأعاجِمِ فَيُحَدِّثُ بِها قُرَيْشًا ويَقُولُ لَهُمْ: إنَّ مُحَمَّدًا يُحَدِّثُكم بِحَدِيثِ عادٍ وثَمُودَ، وأنا أُحَدِّثُكم بِحَدِيثِ رُسْتُمَ وإسْفِنْدِيارَ وأخْبارِ الأكاسِرَةِ، فَيَسْتَمْلِحُونَ حَدِيثَهُ ويَتْرُكُونَ اسْتِماعَ القُرْآنِ، فَنَزَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الآيَةُ. وَفِي المُرادِ بِلَهْوِ الحَدِيثِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: [أنَّهُ] الغِناءُ. كانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: هو الغِناءُ والَّذِي لا إلَهَ إلّا هُوَ، يُرَدِّدُها ثَلاثَ مَرّاتٍ؛ وبِهَذا قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وعِكْرِمَةُ، وقَتادَةُ. ورَوى ابْنُ أبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجاهِدٍ، قالَ: اللَّهْوُ: الطَّبْلُ. والثّانِي: أنَّهُ ما ألْهى عَنِ اللَّهِ، قالَهُ الحَسَنُ، وعَنْهُ مِثْلُ القَوْلِ الأوَّلِ. والثّالِثُ: أنَّهُ الشِّرْكُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والرّابِعُ: الباطِلُ، قالَهُ عَطاءٌ. وَفِي مَعْنى ﴿يَشْتَرِي﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: يَشْتَرِي بِمالِهِ؛ وحَدِيثُ النَّضْرِ يُعَضِّدُهُ. والثّانِي: يَخْتارُ ويَسْتَحِبُّ، قالَهُ قَتادَةُ، ومَطَرٌ. (p-٣١٧)وَإنَّما قِيلَ لِهَذِهِ الأشْياءِ: لَهْوُ الحَدِيثِ، لِأنَّها تُلْهِي عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُضِلَّ﴾ المَعْنى: لِيَصِيرَ أمْرُهُ إلى الضَّلالِ. وقَدْ بَيَّنّا هَذا الحَرْفَ في (الحَجِّ: ٩) . وَقَرَأ أبُو رَزِينٍ، والحَسَنُ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، والأعْمَشُ، وأبُو جَعْفَرٍ: " لِيُضِلَّ " بِضَمِّ الياءِ، والمَعْنى: لِيُضِلَّ غَيْرَهُ، وإذا أضَلَّ غَيْرَهُ فَقَدْ ضَلَّ هو أيْضًا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَتَّخِذَها﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: " ويَتَّخِذُها " بِرَفْعِ الذّالِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: بِنَصْبِ الذّالِ قالَ أبُو عَلِيٍّ: مَن نَصَبَ عَطَفَ عَلى " لِيُضِلَّ " " ويَتَّخِذَ " ومَن رَفَعَ عَطَفَهُ عَلى " مَن يَشْتَرِي " " ويَتَّخِذُ " . وَفِي المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَيَتَّخِذَها﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها الآياتُ، والثّانِي: السَّبِيلُ. وَما بَعْدَ هَذا مُفَسَّرٌ في مَواضِعَ قَدْ تَقَدَّمَتْ [الإسْراءِ: ٤٦، الأنْعامِ: ٢٥، البَقَرَةِ: ٢٥، الرَّعْدِ: ٢، النَّحْلِ: ١٥، الشُّعَراءِ: ٧]، إلى قَوْلِهِ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ﴾ وفِيها قَوْلانِ. أحَدُهُما: الفَهْمُ والعَقْلُ، قالَهُ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: النُّبُوَّةُ. وقَدِ اخْتُلِفَ في نُبُوَّتِهِ عَلى قَوْلَيْنِ. أحَدُهُما: أنَّهُ كانَ حَكِيمًا ولَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ والثّانِي: أنَّهُ كانَ نَبِيًّا، قالَهُ الشَّعْبِيُّ، وعِكْرِمَةُ، والسُّدِّيُّ. هَكَذا حَكاهُ (p-٣١٨)عَنْهُمُ الواحِدِيُّ، ولا يُعْرَفُ، إلّا أنَّ هَذا مِمّا تَفَرَّدَ بِهِ عِكْرِمَةُ؛ والقَوْلُ الأوَّلُ أصَحُّ. وَفِي صِناعَتِهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ كانَ خَيّاطًا، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ. والثّانِي: راعِيًا، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. والثّالِثُ: نَجّارًا، قالَهُ خالِدٌ الرَّبْعِيُّ. فَأمّا صِفَتُهُ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا. وقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ: كانَ لُقْمانُ أسْوَدَ مَن سُودانِ مِصْرَ. وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ مُشَقَّقَ القَدَمَيْنِ، وكانَ قاضِيًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ المَعْنى: وقُلْنا لَهُ: أنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [عَلى] ما أعْطاكَ مِنَ الحِكْمَةِ ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإنَّما يَشْكُرْ لِنَفْسِهِ﴾ أيْ: إنَّما يَفْعَلُ لِنَفْسِهِ ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ النِّعْمَةَ، فَإنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنْ عِبادَةِ خَلْقِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب