الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: خافَتِ الشَّياطِينُ أنْ يَتَزَوَّجَ سُلَيْمانُ بِلْقِيسَ فَتُفْشِيَ إلَيْهِ أسْرارَ الجِنِّ، لِأنَّ أُمَّها كانَتْ جِنِّيَّةً، فَلا يَنْفَكُّونَ مِن تَسْخِيرِ سُلَيْمانَ وذُرِّيَّتَهُ بَعْدَهُ، فَأساؤُوا الثَّناءَ عَلَيْها وقالُوا: إنَّ في عَقْلِها شَيْئًا، وإنَّ رِجْلَها كَحافِرِ الحِمارِ، فَأرادَ سُلَيْمانُ [أنْ] يَخْتَبِرَ عَقْلَها بِتَنْكِيرِ عَرْشِها، ويَنْظُرُ إلى قَدَمَيْها بِبِناءِ الصَّرْحِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ومَعْنى ﴿نَكِّرُوا﴾: غَيِّرُوا، يُقالُ: نَكَّرْتُ الشَّيْءَ فَتَنَكَّرَ، أيْ: غَيَّرْتُهُ فَتَغَيَّرَ. (p-١٧٧)وَلِلْمُفَسِّرِينَ في كَيْفِيَّةِ تَغْيِيرِهِ سِتَّةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ زِيدَ فِيهِ ونَقُصَ مِنهُ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّهم جَعَلُوا صَفائِحَ الذَّهَبِ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِ مَكانَ صَفائِحِ الفِضَّةِ، وصَفائِحَ الفِضَّةِ مَكانَ صَفائِحِ الذَّهَبِ، والياقُوتَ مَكانَ الزَّبَرْجَدِ، والدُّرَّ مَكانَ اللُّؤْلُؤِ، وقائِمَتِيِ الزَّبَرْجَدِ مَكانَ قائِمَتِيِ الياقُوتِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا. والثّالِثُ: أنَّهم نَزَعُوا ما عَلَيْهِ مِن فُصُوصِهِ وجَواهِرِهِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا. والرّابِعُ: أنَّهم جَعَلُوا ما كانَ مِنهُ أحْمَرَ أخْضَرَ، وما كانَ أخْضَرَ أحْمَرُ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والخامِسُ: أنَّهم جَعَلُوا أسْفَلَهُ أعْلاهُ، ومُقَدِّمَهُ مُؤَخِّرَهُ، وزادُوا فِيهِ، ونَقَصُوا مِنهُ، قالَهُ قَتادَةُ. والسّادِس: أنَّهم جَعَلُوا فِيهِ تَماثِيلَ السَّمَكِ، قالَهُ أبُو صالِحٍ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿كَأنَّهُ هُوَ﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها لَمّا رَأتْهُ جَعَلَتْ تَعْرِفُ وتُنْكِرُ، ثُمَّ قالَتْ في نَفْسِها: مِن أيْنَ يُخْلُصُ إلى ذَلِكَ وهو في سَبْعَةِ أبْياتٍ والحَرَسُ حَوْلَهُ؟! ثُمَّ قالَتْ: كَأنَّهُ هو، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ قَتادَةُ: شَبَّهَتْهُ بِعَرْشِها. وقالَ السُّدِّيُّ: وجَدَتْ فِيهِ ما تَعْرِفُهُ فَلَمْ تُنْكِرْ، ووَجَدَتْ فِيهِ ما تُنْكِرُهُ فَلَمْ تُثْبِتْ، فَلِذَلِكَ قالَتْ: كَأنَّهُ هو. والثّانِي: أنَّها عَرَفَتْهُ، ولَكِنَّها شَبَّهَتْ عَلَيْهِمْ كَما شَبَّهُوا [عَلَيْها]، فَلَوْ أنَّهم قالُوا: هَذا عَرْشُكَ، لَقالَتْ: نَعَمْ، قالَهُ مُقاتِلٌ. قالَ المُفَسِّرُونَ: فَقِيلَ لَها: فَإنَّهُ عَرْشُكَ، فَما أغْنى عَنْكَ إغْلاقُ الأبْوابِ. ! وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَأُوتِينا العِلْمَ﴾ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. (p-١٧٨)أحَدُها: أنَّهُ قَوْلُ سُلَيْمانَ، قالَهُ مُجاهِدٌ. ثُمَّ في مَعْناهُ قَوْلانِ. أحَدُهُما: وأُوتِينا العِلْمَ بِاللَّهِ وقُدْرَتِهِ عَلى ما يَشاءُ مِن قِبَلِ هَذِهِ المَرْأةِ. والثّانِي: أُوتِينا العِلْمَ بِإسْلامِها ومَجِيئِها طائِعَةً مِن قِبَلِ مَجِيئِها وكُنّا مُسْلِمِينَ لِلَّهِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ مِن قَوْلِ بِلْقِيسَ، فَإنَّها لَمّا رَأتْ عَرْشَها، قالَتْ: قَدْ عَرَفْتُ هَذِهِ الآيَةَ، وأُوتِينا العِلْمَ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ سُلَيْمانَ بِالآَياتِ المُتَقَدِّمَةِ، تَعْنِي أمْرَ الهُدْهُدِ والرُّسُلِ الَّتِي بُعِثَتْ مِن قَبْلُ هَذِهِ الآيَةِ، وكُنّا مُسْلِمِينَ مُنْقادِينَ لِأمْرِكَ قَبْلَ أنْ نَجِيءَ. والثّالِثُ: أنَّهُ مِن قَوْلِ قَوْمِ سُلَيْمانَ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ قالَ الفَرّاءُ: مَعْنى الكَلامِ: هي عاقِلَةٌ، إنَّما صَدَّها عَنْ عِبادَةِ اللَّهِ عِبادَتُها الشَّمْسَ والقَمَرَ، وكانَ عادَةً مِن دِينِ آَبائِها؛ والمَعْنى: وصَدَّها أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ ما كانَتْ تَعْبُدُ، قالَ: وقَدْ قِيلَ: صَدَّها سُلَيْمانُ، أيْ: مَنَعَها ما كانَتْ تَعْبُدُ. قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى: صَدَّها عَنِ الإيمانِ العادَةُ الَّتِي كانَتْ عَلَيْها، لِأنَّها نَشَأتْ ولَمْ تَعْرِفْ إلّا قَوْمًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ، وبَيَّنَ عِبادَتَها بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّها كانَتْ مِن قَوْمٍ كافِرِينَ﴾ وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: " أنَّها كانَتْ " بِفَتْحِ الهَمْزَةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قِيلَ لَها ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: أمَرَ الشَّياطِينَ فَبَنَوْا لَهُ صَرْحًا كَهَيْئَةِ السَّطْحِ مِن زُجاجٍ. وَفِي سَبَبِ أمْرِهِ بِذَلِكَ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهُ أرادَ أنْ يُرِيَها مَلِكًا هو أعَزُّ مِن مَلِكِها، قالَهُ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. والثّانِي: أنَّهُ أرادَ أنْ يَنْظُرُ إلى قَدَمِها مِن غَيْرِ أنْ يَسْألَها كَشْفَها، لِأنَّهُ (p-١٧٩)قِيلَ لَهُ: إنَّ رِجْلَها كَحافِرِ الحِمارِ، فَأمَرَ أنْ يُهَيَّأ لَها بَيْتٌ مِن قَوارِيرَ فَوْقَ الماءِ، ووَضَعَ سَرِيرَ سُلَيْمانَ في صَدْرِ البَيْتِ، هَذا قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ. والثّالِثُ: أنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيَخْتَبِرَها كَما اخْتَبَرَتْهُ بِالوَصائِفِ والوُصَفاءِ، ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. فَأمّا الصَّرْحُ، فَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هو القَصْرُ، وجَمْعُهُ: صُرُوحٌ، ومِنهُ قَوْلُ الهُذَلِيِّ: ؎ [عَلى طُرُقٍ كَنُحُورِ الرِّكا بِ ] تَحْسَبُ أعْلامُهُنَّ الصُّرُوحا قالَ: ويُقالُ: الصَّرْحُ بَلاطٌ اتُّخِذَ لَها مِن قَوارِيرَ، وجُعِلَ تَحْتَها ماءٌ وسَمَكٌ. قالَ مُجاهِدٌ: كانَتْ بِرْكَةً مِن ماءٍ ضَرَبَ عَلَيْها سُلَيْمانُ قَوارِيرَ. وقالَ مُقاتِلٌ: كانَ قَصْرًا مِن قَوارِيرَ بُنِيَ عَلى الماءِ وتَحْتَهُ السَّمَكُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَسِبَتْهُ لُجَّةً﴾ وهي: مُعْظَمُ الماءِ ﴿وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها﴾ لِدُخُولِ الماءِ، فَناداها سُلَيْمانُ ﴿إنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ﴾ أيْ: مُمَلَّسٌ ﴿مِن قَوارِيرَ﴾ أيْ: مِن زُجاجٍ؛ فَعَلِمَتْ حِينَئِذٍ أنَّ مُلْكَ سُلَيْمانَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، فِ ﴿قالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي﴾ أيْ: بِعِبادَةِ غَيْرِكَ. وقِيلَ: ظَنَّتْ في سُلَيْمانَ أنَّهُ يُرِيدُ تَفْرِيقَها في الماءِ، فَلَمّا عَلِمَتْ أنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ قالَتْ: رَبِّ (p-١٨٠)إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بِذَلِكَ الظَّنِّ، وأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ، ثُمَّ تَزَوَّجَها سُلَيْمانُ. وقِيلَ: إنَّهُ رَدَّها إلى مَمْلَكَتِها وكانَ يَزُورُها في كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً ويُقِيمُ عِنْدَها ثَلاثَةَ أيّامٍ، وأنَّها ولَدَتْ مِنهُ. وقِيلَ: إنَّهُ زَوَّجَها بِبَعْضِ المُلُوكِ ولَمْ يَتَزَوَّجْها هو.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب