الباحث القرآني

(p-١٥٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وسُلَيْمانَ عِلْمًا﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: عِلْمًا بِالقَضاءِ وبِكَلامِ الطَّيْرِ والدَّوابِّ وتَسْبِيحِ الجِبالِ ﴿وَقالا الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا﴾ بِالنُّبُوَّةِ والكِتابِ وإلانَةِ الحَدِيدِ وتَسْخِيرِ الشَّياطِينِ والجِنِّ والإنْسِ ﴿عَلى كَثِيرٍ مِن عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ﴾ قالَ مُقاتِلٌ: كانَ داوُدُ أشَدَّ تَعَبُّدًا مِن سُلَيْمانَ، وكانَ سُلَيْمانُ أعْظَمَ مُلْكًا مِنهُ وأفْطَنَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾ أيْ: ورِثَ نُبُوَّتَهُ وعِلْمَهُ ومُلْكَهُ، وكانَ لِداوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، فَخَصَّ سُلَيْمانَ بِذَلِكَ، ولَوْ كانَتْ وِراثَةُ مالٍ لَكانَ جَمِيعُ أوْلادِهِ فِيها سَواءً. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ﴾ يَعْنِي سُلَيْمانَ لِبَنِي إسْرائِيلَ ﴿يا أيُّها النّاسُ عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾ قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: " عَلَّمْنا " بِفَتْحِ العَيْنِ واللّامِ. قالَ الفَرّاءُ: ﴿مَنطِقَ الطَّيْرِ﴾: كَلامُ الطَّيْرِ كالمَنطِقِ إذا فُهِمَ، قالَ الشّاعِرُ:(p-١٦٠) ؎ عَجِبْتُ لَها أنّى يَكُونُ غِناؤُها فَصِيحًا ولَمْ تَفْغَرْ ( تَفْتَحْ ) بِمَنطِقِها فَما وَمَعْنى الآيَةِ: فَهِمْنا ما تَقُولُ الطَّيْرُ. قالَ قَتادَةُ: والنَّمْلُ مِنَ الطَّيْرِ. ﴿وَأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أيْ: مِن كُلِّ شَيْءٍ يَجُوزُ أنَّ يُؤْتاهُ الأنْبِياءُ والنّاسُ. وَقالَ مُقاتِلٌ: أعْطَيْنا المُلْكَ والنُّبُوَّةَ والكِتابَ والرِّياحَ ومَنطِقَ الطَّيْرِ، وسُخِّرَتْ لَنا الجِنُّ والشَّياطِينُ. وَرَوى جَعْفَرُ بْنً مُحَمَّدٍ عَنْ أبِيهِ، قالَ: أُعْطِيَ سُلَيْمانُ مُلْكَ مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، فَمَلَكَ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ وسِتَّةَ أشْهُرٍ، ومُلْكَ أهْلِ الدُّنْيا كُلِّهِمْ مِنَ الجِنِّ والإنْسِ والشَّياطِينِ والدَّوابِّ والطَّيْرِ والسِّباعِ، وأُعْطِيَ عِلْمَ كُلِّ شَيْءٍ ومَنطِقَ كُلِّ شَيْءٍ، وفي زَمانِهِ صُنِعَتِ الصَّنائِعُ المُعَجِّبَةُ، فَذَلِكَ قَوْله: ﴿عُلِّمْنا مَنطِقَ الطَّيْرِ وأُوتِينا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ هَذا﴾ يَعْنِي: الَّذِي أعْطَيْنا ﴿لَهُوَ الفَضْلُ المُبِينُ﴾ أيِ: الزِّيادَةُ الظّاهِرَةُ عَلى ما أُعْطِي غَيْرُنا. ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ﴾ أيْ: جُمِعَ لَهُ كُلُّ صِنْفٍ مِن جُنْدِهِ عَلى حِدَةٍ، وهَذا كانَ في مَسِيرٍ لَهُ، ﴿فَهم يُوزَعُونَ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: يُحْبَسُ أوَّلُهم عَلى آَخِرِهِمْ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وأصْلُ الوَزْعِ: الكَفُّ والمَنعُ. يُقالُ: وزِعْتُ الرَّجُلَ، أيْ: كَفَفْتُهُ، ووازِعُ الجَيْشِ: الَّذِي يَكُفُّهم عَنِ التَّفَرُّقِ، ويَرُدُّ مَن شَذَّ مِنهم. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَتّى إذا أتَوْا﴾ أيْ: أشْرَفُوا ﴿عَلى وادِ النَّمْلِ﴾ وفي مَوْضِعِهِ قَوْلانِ. (p-١٦١)أحَدُهُما: أنَّهُ بِالطّائِفِ، قالَهُ كَعْبٌ. والثّانِي: بِالشّامِ، قالَهُ قَتادَةُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ﴾ وقَرَأ أبُو مِجْلَزٍ، وأبُو رَجاءٍ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: " نَمُلَةٌ " بِضَمِّ المِيمِ؛ أيْ: صاحَتْ بِصَوْتٍ، فَلَمّا كانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ مَفْهُومًا عَبَّرَ عَنْهُ بِالقَوْلِ؛ ولَمّا نَطَقَ النَّمْلُ كَما يَنْطِقُ بَنُو آَدَمَ، أُجْرِيَ مَجْرى الآدَمِيِّينَ، فَقِيلَ: ﴿ادْخُلُوا﴾، وألْهَمَ اللَّهُ تِلْكَ النَّمْلَةَ مَعْرِفَةَ سُلَيْمانَ مُعْجِزًا لَهُ، وقَدْ ألْهَمَ اللَّهُ النَّمْلَ كَثِيرًا مِن مَصالِحِها تَزِيدُ بِهِ عَلى الحَيَواناتِ، فَمِن ذَلِكَ أنَّها تَكْسِرُ كُلَّ حَبَّةٍ تَدَّخِرُها قِطْعَتَيْنِ لِئَلّا تَنْبُتَ، إلّا الكُزْبَرَةَ فَإنَّها تَكْسِرُها أرْبَعَ قِطَعٍ، لِأنَّها تَنْبُتُ إذا كُسِرَتْ قِطْعَتَيْنِ، فَسُبْحانَ مَن ألْهَمَها هَذا! وَفِي صِفَةِ تِلْكَ النَّمْلَةِ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّها كانَتْ كَهَيْئَةِ النَّعْجَةِ، قالَ نُوفُ الشّامِيُّ: كانَ النَّمْلُ في زَمَنِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ كَأمْثالِ الذِّئابِ. والثّانِي: كانَتْ نَمْلَةً صَغِيرَةً. ﴿ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: " مَسْكَنَكم " عَلى التَّوْحِيدِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ الحَطْمُ: الكَسْرُ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وأبُو رَجاءٍ: " لَيَحْطِمَنَّكم " بِغَيْرِ ألِفٍ بَعْدَ اللّامِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: (p-١٦٢)" لا يَحْطِمْكم " بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الحاءِ وتَخْفِيفِ الطّاءِ وسُكُونِ المِيمِ وحَذْفِ النُّونِ. وقَرَأ عَمْرُو بْنُ العاصِ، وأبانُ: " يَحْطمَنكم " بِفَتْحِ الياءِ وسُكُونِ الحاءِ والنُّونِ ساكِنَةً أيْضًا والطّاءُ خَفِيفَةٌ. وقَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو مِجْلَزٍ: " لا يَحِطِّمَنَّكم " بِفَتْحِ الياءِ وكَسْرِ الحاءِ وتَشْدِيدِ الطّاءِ والنُّونِ جَمِيعًا. وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْفَعِ، وابْنُ يَعْمُرَ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: " يُحْطِمَنَّكم " بِرَفْعِ الياءِ وسُكُونِ الحاءِ وتَخْفِيفِ الطّاءِ وتَشْدِيدِ النُّونِ. والحَطْمُ: الكَسْرُ، والحُطامُ: ما تَحَطَّمَ. قالَ مُقاتِلٌ: سَمِعَ سُلَيْمانُ كَلامَها مِن ثَلاثَةِ أمْيالٍ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَهم لا يَشْعُرُونَ﴾ قَوْلانِ. أحَدُهُما: وأصْحابُ سُلَيْمانَ لَمْ يَشْعُرُوا بِكَلامِ النَّمْلَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: وأصْحابُ سُلَيْمانَ لا يَشْعُرُونَ بِمَكانِكم، أنَّها عَلِمَتْ أنَّهُ مُلْكٌ لا بَغْيَ فِيهِ، وأنَّهم لَوْ عَلِمُوا بِالنَّمْلِ ما تَوَطَّؤُوهم، قالَهُ مُقاتِلٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَتَبَسَّمَ ضاحِكًا﴾ قالَ الزَّجّاجُ: ﴿ضاحِكًا﴾ مَنصُوبٌ، حالٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِأنَّ " تَبَسَّمَ " بِمَعْنى " ضَحِكَ " . قالَ المُفَسِّرُونَ: تَبَسَّمَ تَعَجُّبًا مِمّا قالَتْ، وقِيلَ: مِن ثَنائِها عَلَيْهِ. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: هَذِهِ الآيَةُ مِن عَجائِبِ القُرْآَنِ، لِأنَّها بِلَفْظَةِ " يا " نادَتْ " أيُّها " نَبَّهَتِ " النَّمْلَ " عَيَّنَتْ " ادْخُلُوا " أمَرَتْ " مَساكِنَكم " نَصَّتْ ﴿لا يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ حَذَّرَتْ ﴿سُلَيْمانُ﴾ خَصَّتْ ﴿وَجُنُودُهُ﴾ عَمَّتْ ﴿وَهم لا يَشْعُرُونَ﴾ عَذَرَتْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ رَبِّ أوْزِعْنِي﴾ قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ألْهِمْنِي، أصْلُ الإيزاعِ: الإغْراءُ بالشَّيْءِ، يُقالُ: أوْزَعْتُهُ بِكَذا، أيْ: أغْرَيْتُهُ بِهِ، وهو مُوَزَّعٌ بِكَذا، ومُولَعٌ بِكَذا. وقالَ الزَّجّاجُ. تَأْوِيلُهُ في اللُّغَةِ: كُفَّنِي عَنِ الأشْياءِ إلّا عَنْ شُكْرِ نِعْمَتِكَ؛ والمَعْنى: كُفَّنِي عَمّا يُباعِدُ مِنكَ، ﴿وَأنْ أعْمَلَ﴾ أيْ: (p-١٦٣)وَألْهِمْنِي أنْ أعْمَلَ ﴿صالِحًا تَرْضاهُ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: إنَّما شَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ لِأنَّ الرِّيحَ أبْلَغَتْ إلَيْهِ صَوْتَها فَفَهِمَ ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب