قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: " يَحْشُرُهم " " فَيَقُولُ " بِالياءِ فِيهِما. وقَرَأ نافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، (p-٧٨)وَأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: " نَحْشُرُهم " بِالنُّونِ " فَيَقُولُ " بِالياءِ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ: " نَحْشُرُهم " " فَنَقُولُ " بِالنُّونِ فِيهِما جَمِيعًا؛ يَعْنِي: المُشْرِكِينَ، ﴿وَما يَعْبُدُونَ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: يَعْنِي عِيسى وعُزَيْرًا والمَلائِكَةَ. وقالَ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ: يَعْنِي الأصْنامَ، فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِلْأصْنامِ في الكَلامِ، ويُخاطِبُها ﴿فَيَقُولُ أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادِي﴾ أيْ: أمَرْتُمُوهم بِعِبادَتِكم ﴿أمْ هم ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ أيْ: أخْطَأُوا الطَّرِيقَ. ﴿قالُوا﴾ يَعْنِي الأصْنامَ ﴿سُبْحانَكَ﴾ نَزَّهُوا اللَّهَ تَعالى أنْ يُعْبَدَ غَيْرُهُ ﴿ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِن أوْلِياءَ﴾ نُوالِيهِمْ؛ والمَعْنى: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَعْبُدَ نَحْنُ غَيْرَكَ، فَكَيْفَ نَدْعُو إلى عِبادَتِنا؟! فَدَلَّ هَذا الجَوابُ عَلى أنَّهَمْ لَمْ يَأْمُرُوا بِعِبادَتِهِمْ. وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ، وأبُو جَعْفَرٍ، وابْنُ يَعْمُرَ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ: " أنْ نُتَّخَذَ " بِرَفْعِ النُّونِ وفَتْحِ الخاءِ. ثُمَّ ذَكَرُوا سَبَبَ تَرْكِهِمُ الإيمانَ، فَقالُوا: ﴿وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ﴾ أيْ: أطَلْتَ لَهُمُ العُمُرَ وأوْسَعَتْ لَهُمُ الرِّزْقَ ﴿حَتّى نَسُوا الذِّكْرَ﴾ أيْ: تَرَكُوا الإيمانَ بِالقُرْآنِ والِاتِّعاظَ بِهِ ﴿وَكانُوا قَوْمًا بُورًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَلْكَي. وقالَ في رِوايَةٍ أُخْرى، البُورُ: [فِي] لُغَةِ أزْدِ عُمانَ: الفاسِدُ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هو مِن بارَ يَبُورُ: إذا هَلَكَ وبَطَلَ، يُقالُ: بارَ الطَّعامُ: إذا كَسَدَ، وبارَتِ الأيِّمُ: إذا لَمْ يُرْغَبْ فِيها، وكانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتَعَوَّذُ مِن بَوارِ الأيِّمِ، قالَ: وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: يُقالُ: رَجُلٌ بُورٌ، وقَوْمٌ بُورٌ، لا يُجْمَعُ ولا يُثَنّى، واحْتَجَّ بِقَوْلِ الشّاعِرِ:(p-٧٩)
؎ يا رَسُولَ المَلِيكِ إنَّ لِسانِي راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذْ أنا بُورُ
وَقَدْ سَمِعْنا بِـ " رَجُلٍ بائِرٍ "، ورَأيْناهم رُبَّما جَمَعُوا " فاعِلًا " عَلى " فُعْلٍ "، نَحْوَ عائِذٍ وعُوذٍ، وشارِفٍ وشُرْفٍ. قالَ المُفَسِّرُونَ: فَيُقالُ لِلْكُفّارِ حِينَئِذٍ ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ﴾ أيْ: فَقَدْ كَذَّبَكُمُ المَعْبُودُونَ في قَوْلِكم: إنَّهم آلِهَةٌ. وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، ومُعاذٌ القارِئُ، وابْنُ شَنْبُوذَ عَنْ قُنْبُلٍ: " بِما يَقُولُونَ " بِالياءِ؛ والمَعْنى: كَذَّبُوكم بِقَوْلِهِمْ: ﴿سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا﴾ الآيَة؛ هَذا قَوْلُ الأكْثَرِينَ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فالمَعْنى: فَقَدْ كَذَّبَكُمُ المُشْرِكُونَ بِما تَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ .
قَوْلُهُ تَعالى: ( فَمًا يستطعيون صَرْفًا ولا نَصْرًا ) قَرَأ الأكْثَرُونَ بِالياءِ. وفِيهِ وجْهانِ.
أحَدُهُما: فَما يَسْتَطِيعُ المَعْبُودُونَ صَرْفًا لِلْعَذابِ عَنْكم ولا نَصْرًا لَكم.
والثّانِي: فَما يَسْتَطِيعُ الكُفّارُ صَرْفًا لِعَذابِ اللَّهِ عَنْهم ولا نَصْرًا لِأنْفُسِهِمْ.
وَقَرَأ حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: " تَسْتَطِيعُونَ " بِالتّاءِ؛ والخِطابِ لِلْكُفّارِ. وحَكى ابْنُ قُتَيْبَةَ عَنْ يُونُسَ البَصَرِيِّ أنَّهُ قالَ: الصَّرْفُ: الحِيلَةُ مِن قَوْلِهِمْ: إنَّهُ لِيَتَصَرَّفُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن يَظْلِمْ مِنكُمْ﴾ أيْ: بِالشِّرْكِ ﴿نُذِقْهُ﴾ في الآخِرَةِ.
وَقَرَأ عاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، والضَّحّاكُ، وأبُو الجَوْزاءِ [وَقَتادَةُ]: " يَذُقْهُ " بِالياءِ ﴿عَذابًا كَبِيرًا﴾ أيْ: شَدِيدًا. ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: في الآيَةِ مَحْذُوفٌ، (p-٨٠)تَقْدِيرُهُ: وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ رُسُلًا مِنَ المُرْسَلِينَ، فَحُذِفَتْ " رُسُلًا " لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِنَ المُرْسَلِينَ﴾ يَدُلُّ عَلَيْها.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا إنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ ويَمْشُونَ في الأسْواقِ﴾ أيْ: إنَّهم كانُوا عَلى مَثَلِ حالِكَ، فَكَيْفَ تَكُونُ بِدَعًا مِنهُمْ؟!
فَإنْ قِيلَ: لِمَ كُسِرَتْ " إنَّهم " هاهُنا، وفُتِحَتْ في [ (بَراءَةٍ: ٥٤) في ] قَوْله: ﴿أنْ تُقْبَلَ مِنهم نَفَقاتُهم إلا أنَّهُمْ﴾ فَقَدْ بَيَّنّا هُنالِكَ عِلَّةَ فَتْحِ تِلْكَ؛ فَأمّا كَسْرُ هَذِهِ، فَذَكَرَ ابْنُ الأنْبارِيِّ فِيهِ وجْهَيْنِ.
أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ فِيها واوُ حالٍ مُضْمَرَةٌ، فَكُسِرَتْ بَعْدَها " إنَّ " لِلِاسْتِئْنافِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: إلّا وإنَّهم لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ، فَأُضْمِرَتِ الواوُ هاهُنا كَما أُضْمِرَتْ في قَوْلِهِ ﴿أوْ هم قائِلُونَ﴾ [الأعْرافِ:٤]، والتَّأْوِيلُ: أوْ وهم قائِلُونَ.
والثّانِي: أنْ تَكُونَ كُسِرَتْ لِإضْمارِ " مَن " قَبْلَها، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلّا مَن إنَّهم لَيَأْكُلُونَ، قالَ الشّاعِرُ:
؎ فَظَلُّوا ومِنهم دَمْعُهُ سابِقٌ لَهُ ∗∗∗ وآخَرُ يَثْنِي دَمْعَةَ العَيْنِ بِالمَهْلِ
أرادَ: مَن دَمْعُهُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا بَعْضَكم لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ الفِتْنَةُ: الِابْتِلاءُ والِاخْتِبارُ.
وَفِي مَعْنى الكَلامِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّهُ افْتِتانُ الفَقِيرِ بِالغَنِيِّ، يَقُولُ: لَوْ شاءَ لَجَعَلَنِي غَنِيًّا، والأعْمى بِالبَصِيرِ، والسَّقِيمِ بِالصَّحِيحِ، قالَهُ الحَسَنُ.
(p-٨١)والثّانِي: ابْتِلاءُ الشَّرِيفِ بِالوَضِيعِ، والعَرَبِيِّ بِالمَوْلى، فَإذا أرادَ الشَّرِيفُ أنْ يُسْلِمَ فَرَأى الوَضِيعَ قَدْ سَبَقَهُ بِالإسْلامِ أنِفَ فَأقامَ عَلى كُفْرِهِ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ.
والثّالِثُ: أنَّ المُسْتَهْزِئِينَ مِن قُرَيْشٍ كانُوا إذا رَأوْا فَقُراءَ المُؤْمِنِينَ، قالُوا: انْظُرُوا إلى أتْباعِ مُحَمَّدٍ مِن مَوالِينا ورَذالَتِنا، قالَهُ مُقاتِلٌ.
فَعَلى الأوَّلِ: يَكُونُ الخِطابُ بِقَوْلِهِ: ﴿أتَصْبِرُونَ﴾ لِأهْلِ البَلاءِ. وعَلى الثّانِي: لِلرُّؤَساءِ، فَيَكُونُ المَعْنى: أتَصْبِرُونَ عَلى سَبْقِ المُوالِي والأتْباعِ. وعَلى الثّالِثِ: لِلْفُقَراءِ؛ فالمَعْنى: أتَصْبِرُونَ عَلى أذى الكُفّارِ واسْتِهْزائِهِمْ، والمَعْنى: قَدْ عَلِمْتُمْ ما وُعِدَ الصّابِرُونَ، ﴿وَكانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ بِمَن يَصْبِرُ وبِمَن يَجْزَعُ.
{"ayahs_start":17,"ayahs":["وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَیَقُولُ ءَأَنتُمۡ أَضۡلَلۡتُمۡ عِبَادِی هَـٰۤؤُلَاۤءِ أَمۡ هُمۡ ضَلُّوا۟ ٱلسَّبِیلَ","قَالُوا۟ سُبۡحَـٰنَكَ مَا كَانَ یَنۢبَغِی لَنَاۤ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنۡ أَوۡلِیَاۤءَ وَلَـٰكِن مَّتَّعۡتَهُمۡ وَءَابَاۤءَهُمۡ حَتَّىٰ نَسُوا۟ ٱلذِّكۡرَ وَكَانُوا۟ قَوۡمَۢا بُورࣰا","فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِیعُونَ صَرۡفࣰا وَلَا نَصۡرࣰاۚ وَمَن یَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابࣰا كَبِیرࣰا","وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا قَبۡلَكَ مِنَ ٱلۡمُرۡسَلِینَ إِلَّاۤ إِنَّهُمۡ لَیَأۡكُلُونَ ٱلطَّعَامَ وَیَمۡشُونَ فِی ٱلۡأَسۡوَاقِۗ وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضࣲ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِیرࣰا"],"ayah":"فَقَدۡ كَذَّبُوكُم بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسۡتَطِیعُونَ صَرۡفࣰا وَلَا نَصۡرࣰاۚ وَمَن یَظۡلِم مِّنكُمۡ نُذِقۡهُ عَذَابࣰا كَبِیرࣰا"}