الباحث القرآني

(p-٤٠١)سُورَةُ الحَجِّ * فَصْلٌ: في نُزُولِها رَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها مَكِّيَّةٌ كُلُّها، غَيْرُ آيَتَيْنِ نَزَلَتا بِالمَدِينَةِ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾، والَّتِي تَلِيها [ الحَجّ ١٢، ١٣ ] . وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها مَدَنِيَّةٌ، إلّا أرْبَعَ آياتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ. . .﴾ إلى آخَرِ الأرْبَعِ [ الحَجّ: ٥٣ - ٥٧ ] . وقالَ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ إلّا ثَلاثَ آياتٍ مِنها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ: (p-٤٠٢)﴿هَذانِ خَصْمانِ﴾ واللَّتانِ بَعْدَها [ الحَجّ: ٢٠ - ٢٢ ] . وقالَ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ: أوَّلُها مَدَنِيٌّ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ﴾ [ الحَجّ: ٣٨ ] وسائِرُها مَكِّيٌّ. وقالَ الثَّعْلَبِيُّ: هي مَكِّيَّةٌ غَيْرَ سِتِّ آياتٍ نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ، وهي قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذانِ خَصْمانِ﴾ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الحَمِيدِ﴾ [ الحَجّ ٢٠ - ٢٥ ] . وقالَ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ سَلامَةَ: هي مِن أعاجِيبِ سُوَرِ القُرْآنِ؛ لِأنَّ فِيها مَكِّيًّا ومَدَنِيًّا، وحَضَرِيًّا وسَفَرِيًّا، وحَرْبِيًّا وسِلْمِيًّا، ولَيْلِيًّا ونَهارِيًّا، وناسِخًا ومَنسُوخًا. فَأمّا المَكِّيُّ: فَمِن رَأْسِ الثَّلاثِينَ مِنها إلى آخِرِها. وَأمّا المَدَنِيُّ: فَمِن رَأْسِ خَمْسٍ وعِشْرِينَ إلى رَأْسِ ثَلاثِينَ. وَأمّا اللَّيْلِيُّ: فَمِن أوَّلِها إلى آخَرِ خَمْسِ آياتٍ. وَأمّا النَّهارِيُّ: فَمِن رَأْسِ خَمْسِ [ آياتٍ ] إلى رَأْسِ تِسْعٍ. وَأمّا السَّفَرِيُّ: فَمِن رَأْسِ تِسْعٍ إلى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ. وَأمّا الحَضَرِيُّ: فَإلى رَأْسِ العِشْرِينَ [ مِنها ]، نُسِبَ إلى المَدِينَةِ لِقُرْبِ مُدَّتِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾؛ أيِ: احْذَرُوا عِقابَهُ، ﴿إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ﴾ الزَّلْزَلَةُ: الحَرَكَةُ عَلى الحالَةِ الهائِلَةِ. وَفِي وقْتِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها يَوْمَ القِيامَةِ بَعْدَ النُّشُورِ. رَوى عِمْرانُ بْنُ حُصَيْنٍ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قَرَأ: " ﴿إنَّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾، وقالَ: تَدْرُونَ أيَّ يَوْمٍ ذَلِكَ ؟ فَإنَّهُ يَوْمَ يُنادِي الرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ابْعَثْ بَعْثًا إلى النّارِ "»، فَذَكَرَ الحَدِيثَ. ورَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (p-٤٠٣)" «يَقُولُ اللَّهُ تَعالى يَوْمَ القِيامَةِ لِآدَمَ: قُمْ، فابْعَثْ بَعْثَ النّارِ، فَيَقُولُ: يا رَبِّ؛ وما بَعْثُ النّارِ ؟ قالَ: مِن كُلِّ ألْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وتِسْعَةً وتِسْعِينَ إلى النّارِ، فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ المَوْلُودُ، وتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها "، وقَرَأ الآيَةَ» . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: زَلْزَلَةُ السّاعَةِ: قِيامُها، يَعْنِي: أنَّها تُقارِبُ قِيامَ السّاعَةِ وتَكُونُ مَعَها. وقالَ الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ تَكُونُ يَوْمَ القِيامَةِ. والثّانِي: أنَّها تَكُونُ في الدُّنْيا قَبْلَ القِيامَةِ، وهي مِن أشْراطِ السّاعَةِ، قالَهُ عَلْقَمَةُ، والشَّعْبِيُّ، وابْنُ جُرَيْجٍ. ورَوى أبُو العالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قالَ: سِتُّ آياتٍ قَبْلَ القِيامَةِ، بَيْنَما النّاسُ في أسْواقِهِمْ إذْ ذَهَبَ ضَوْءُ الشَّمْسِ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ إذْ تَناثَرَتِ النُّجُومُ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ إذْ وقَعَتِ الجِبالُ عَلى وجْهِ الأرْضِ، فَتَحَرَّكَتْ واضْطَرَبَتْ، فَفَزِعَ الجِنُّ إلى الإنْسِ، والإنْسُ إلى الجِنِّ، واخْتَلَطَتِ الدَّوابُّ والطَّيْرُ والوَحْشُ، فَماجَ بَعْضُهم في بَعْضٍ، فَقالَتِ الجِنُّ لِلْإنْسِ: نَحْنُ نَأْتِيكم بِالخَبَرِ، فانْطَلَقُوا إلى البُحُورِ، فَإذا هي نارٌ تَأجَّجُ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ، إذْ تَصَدَّعَتِ الأرْضُ إلى الأرْضِ السّابِعَةِ، والسَّماءُ إلى السَّماءِ السّابِعَةِ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ، إذْ جاءَتْهم (p-٤٠٤)الرِّيحُ فَماتُوا. وقالَ مُقاتِلٌ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ قَبْلَ النَّفْخَةِ الأُولى، وذَلِكَ أنْ مُنادِيًا يُنادِي مِنَ السَّماءِ: يا أيُّها النّاسُ أتى أمْرُ اللَّهِ، فَيَفْزَعُونَ فَزَعًا شَدِيدًا، فَيَشِيبُ الصَّغِيرُ وتَضَعُ الحَوامِلُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾؛ أيْ: لا يُوصَفُ لِعِظَمِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَها﴾ يَعْنِي: الزَّلْزَلَةَ، ﴿تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أرْضَعَتْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: تَسْلُو عَنْ ولَدِها وتَتْرُكُهُ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. والثّانِي: تُشْغَلُ عَنْهُ، قالَهُ قُطْرُبٌ، ومِنهُ قَوْلُ ابْنِ رَواحَةَ: وَيُذْهِلُ الخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ وَقَرَأ أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ( تُذْهِلُ ) بِرَفْعِ التّاءِ وكَسْرِ الهاءِ، ( كُلَّ ) بِنَصْبِ اللّامِ. قالَ الأخْفَشُ: وإنَّما قالَ: ﴿مُرْضِعَةٍ﴾؛ لِأنَّهُ أرادَ - والله أعْلَمُ - الفِعْلَ، ولَوْ أرادَ الصِّفَةَ فِيما نَرى لَقالَ: مُرْضِعٍ. قالَ الحَسَنُ: تَذْهَلُ المُرْضِعَةُ عَنْ ولَدِها لِغَيْرِ فِطامٍ، وتَضَعُ الحامِلُ ما في بَطْنِها لِغَيْرِ تَمامٍ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ في الدُّنْيا؛ لِأنَّ بَعْدَ البَعْثِ لا تَكُونُ حُبْلى. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَرى النّاسَ سُكارى﴾ وقَرَأ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، وابْنُ يَعْمُرَ: ( وتُرى ) بِضَمِّ التّاءِ، ومَعْنى ﴿سُكارى﴾: مِن شِدَّةِ الخَوْفِ. ﴿وَما هم بِسُكارى﴾ مِنَ الشَّرابِ، والمَعْنى: تَرى النّاسَ كَأنَّهم سُكارى مِن ذُهُولِ عُقُولِهِمْ؛ لِشِدَّةِ ما يَمُرُّ بِهِمْ، يَضْطَرِبُونَ اضْطِرابَ السَّكْرانِ مِنَ الشَّرابِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: ( سَكْرى وما هم بِسَكْرى ) وهي قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قالَ الفَرّاءُ: (p-٤٠٥)وَهُوَ وجْهٌ جَيِّدٌ؛ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ الهَلْكى والجَرْحى. وقَرَأ عِكْرِمَةُ، والضَّحّاكُ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ: ( سُكارى وما هم بِسُكارى ) بِفَتْحِ السِّينِ والرّاءِ وإثْباتِ الألَفِ. ﴿وَلَكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ فِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ سُكْرَهم مِن خَوْفِ عَذابِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يُجادِلُ في اللَّهِ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ في النَّضْرِ بْنِ الحارِثِ، وفِيما جادَلَ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ كانَ كُلَّما نَزَلَ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ كَذَّبَ بِهِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّهُ زَعَمَ أنَّ المَلائِكَةَ بَناتُ اللَّهِ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّالِثُ: أنَّهُ قالَ: لا يَقْدِرُ اللَّهُ عَلى إحْياءِ المَوْتى، ذَكَرَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾؛ أيْ: إنَّما يَقُولُهُ بِإغْواءِ الشَّيْطانِ لا بِعِلْمٍ. ﴿وَيَتَّبِعُ﴾ ما يُسَوِّلُ لَهُ، ﴿كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾ وقَدْ ذَكَرْنا مَعْنى " المَرِيدِ " في سُورَةِ ( النِّساءِ: ١١٧ ) . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أنَّهُ مَن تَوَلاهُ﴾: ﴿كُتِبَ﴾ بِمَعْنى: قُضِيَ، والهاءُ في " عَلَيْهِ " وفي ﴿تَوَلاهُ﴾ كِنايَةٌ عَنِ الشَّيْطانِ، ومَعْنى الآيَةِ: قُضِيَ عَلى الشَّيْطانِ أنَّهُ يَضِلُّ مَنِ اتَّبَعَهُ. وقَرَأ أبُو عِمْرانَ الجَوْنِيُّ: ( كَتَبَ ) بِفَتْحِ الكافِ، ( أنَّهُ ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، [ ( فَإنَّهُ ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ ] . وقَرَأ أبُو مِجْلَزٍ، وأبُو العالِيَةِ، وابْنُ أبِي لَيْلى، والضَّحّاكُ، وابْنُ يَعْمُرَ: ( إنَّهُ )، ( فَإنَّهُ ) بِكَسْرِ الهَمْزَةِ فِيهِما. وقَدْ بَيَّنّا مَعْنى ﴿السَّعِيرِ﴾ في سُورَةِ ( النِّساءِ: ١٠ ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب