الباحث القرآني

(p-٣٣٨)سُورَةُ الأنْبِياءِ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعِهِمْ مِن غَيْرِ خِلافٍ نَعْلَمُهُ. قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿اقْتَرَبَ﴾ افْتَعَلَ، مِنَ القُرْبِ، يُقالُ: قَرُبَ الشَّيْءُ (p-٣٣٩)واقْتَرَبَ. وهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في كُفّارِ مَكَّةَ. وقالَ الزَّجّاجُ: اقْتَرَبَ لِلنّاسِ وقْتَ حِسابِهِمْ. وقِيلَ: اللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِلنّاسِ﴾ بِمَعْنى ( مِن ) . والمُرادُ بِالحِسابِ: مُحاسَبَةُ اللَّهِ لَهم عَلى أعْمالِهِمْ. وَفِي مَعْنى قُرْبِهُ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ آتٍ، وكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ. والثّانِي: لِأنَّ الزَّمانَ - لِكَثْرَةِ ما مَضى وقِلَّةِ ما بَقِيَ - قَرِيبٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم في غَفْلَةٍ﴾؛ أيْ: عَمّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ اليَوْمِ، ﴿مُعْرِضُونَ﴾ عَنِ التَّأهُّبِ لَهُ. وقِيلَ: ﴿اقْتَرَبَ لِلنّاسِ﴾ عامٌّ، والغَفْلَةُ والإعْراضُ خاصٌّ في الكُفّارِ، بِدَلالَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما يَأْتِيهِمْ مِن ذِكْرٍ مِن رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ﴾، وفي هَذا الذِّكْرِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُهُما: أنَّهُ القُرْآنُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ؛ فَعَلى هَذا تَكُونُ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿مُحْدَثٍ﴾ إلى إنْزالِهِ لَهُ؛ لِأنَّهُ أُنْزِلَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. والثّانِي: أنَّهُ ذِكْرٌ مِنَ الأذْكارِ، ولَيْسَ بِالقُرْآنِ، حَكاهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. وقالَ النِّقاشُ: هو ذِكْرٌ مِن رَسُولِ اللَّهِ، ولَيْسَ بِالقُرْآنِ. والثّالِثُ: أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ في سِياقِ الآيَةِ: ﴿هَلْ هَذا إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾، قالَهُ الحَسَنُ بْنُ الفَضْلِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلا اسْتَمَعُوهُ وهم يَلْعَبُونَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ مُسْتَهْزِئِينَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾؛ أيْ: غافِلَةً عَمّا يُرادُ بِهِمْ. قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى: إلّا اسْتَمَعُوهُ لاعِبِينَ لاهِيَةً قُلُوبُهم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِقَوْلِهِ: (p-٣٤٠)﴿يَلْعَبُونَ﴾ . وقَرَأ عِكْرِمَةُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ( لاهِيَةٌ ) بِالرَّفْعِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأسَرُّوا النَّجْوى﴾؛ أيْ: تَناجَوْا فِيما بَيْنَهم، يَعْنِي: المُشْرِكِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ مَن هم، فَقالَ: ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾؛ أيْ: أشْرَكُوا بِاللَّهِ. و " الَّذِينَ " في مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلى البَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ في " وأسَرُّوا " . ثُمَّ بَيَّنَ سِرِّهُمُ الَّذِي تَناجَوْا بِهِ، فَقالَ: ﴿هَلْ هَذا إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾؛ أيْ: آدَمِيٌّ، فَلَيْسَ بِمَلِكٍ، وهَذا إنْكارٌ لِنُبُوَّتِهِ. وبَعْضُهم يَقُولُ: " أسَرُّوا " هاهُنا بِمَعْنى: أظْهَرُوا؛ لِأنَّهُ مِنَ الأضْدادِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَتَأْتُونَ السِّحْرَ﴾؛ أيْ: أفَتَقْبَلُونَ السِّحْرَ، ﴿وَأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ أنَّهُ سَحْرٌ ؟ يَعْنُونَ: أنَّ مُتابِعَةَ مُحَمَّدٍ ﷺ مُتابَعَةُ السِّحْرِ. ﴿قالَ رَبِّي﴾ وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: ( قُلْ رَبِّي ) . وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: ( قالَ رَبِّي )، وكَذَلِكَ هي في مَصاحِفِ الكُوفِيِّينَ، وهَذا عَلى الخَبَرِ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ﴿يَعْلَمُ القَوْلَ﴾؛ أيْ: لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقالُ في السَّماءِ والأرْضِ، فَهو عالِمٌ بِما أسْرَرْتُمْ» . ﴿بَلْ قالُوا﴾ قالَ الفَرّاءُ: رَدٌّ بِـ " بَلْ " عَلى مَعْنى تَكْذِيبِهِمْ، وإنْ لَمْ يَظْهَرْ قَبْلَهُ الكَلامُ بِجُحُودِهِمْ؛ لِأنَّ مَعْناهُ الإخْبارُ عَنِ الجاحِدِينَ، وأعْلَمَ أنَّ المُشْرِكِينَ كانُوا قَدْ تَحَيَّرُوا في أمْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فاخْتَلَفَتْ أقْوالُهم فِيهِ، فَبَعْضُهم يَقُولُ: هَذا الَّذِي يَأْتِي بِهِ سِحْرٌ، وبَعْضُهم يَقُولُ: أضْغاثُ أحْلامٍ، وهي الأشْياءُ المُخْتَلَطَةُ تُرى في المَنامِ، وقَدْ شَرَحْناها في ( يُوسُفَ: ٤٤ )، وبَعْضُهم يَقُولُ: افْتَراهُ؛ أيِ: اخْتَلَقَهُ، وبَعْضُهم يَقُولُ: هو شاعِرٌ، ﴿فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ﴾ كالنّاقَةِ والعَصا، فاقْتَرَحُوا الآياتِ الَّتِي لا إمْهالَ بَعْدَها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ﴾ يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ، ﴿مِن قَرْيَةٍ﴾ وصَفَ القَرْيَةِ، والمُرادُ: أهْلُها، والمَعْنى: أنَّ الأُمَمَ الَّتِي أُهْلِكَتْ بِتَكْذِيبِ الآياتِ، لَمْ يُؤْمِنُوا (p-٣٤١)بِالآياتِ لَمّا أتَتْهم، فَكَيْفَ يُؤْمِنُ هَؤُلاءِ ؟ وهَذِهِ إشارَةٌ إلى أنَّ الآيَةَ لا تَكُونُ سَبَبًا لِلْإيمانِ، إلّا أنْ يَشاءَ اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ إلا رِجالا﴾ هَذا جَوابُ قَوْلِهِمْ: ﴿هَلْ هَذا إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿نُوحِي إلَيْهِمْ﴾ قَرَأ الأكْثَرُونَ: ( يُوحى ) بِالياءِ. ورَوى حَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: ( نُوحِي ) بِالنُّونِ. وقَدْ شَرَحْنا هَذِهِ الآيَةَ في ( النَّحْلِ: ٤٣ ) . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما جَعَلْناهُمْ﴾ يَعْنِي: الرُّسُلَ، ﴿جَسَدًا﴾ قالَ الفَرّاءُ: لَمْ يَقُلْ: أجْسادًا؛ لِأنَّهُ اسْمُ الجِنْسِ. قالَ مُجاهِدٌ: وما جَعَلْناهم جَسَدًا لَيْسَ فِيهِمْ رُوحٌ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ما جَعَلْنا الأنْبِياءَ قَبْلَهُ أجْسادًا لا تَأْكُلُ الطَّعامَ، ولا تَمُوتُ فَنَجْعَلُهُ كَذَلِكَ. قالَ المُبَرِّدُ وثَعْلَبٌ جَمِيعًا: العَرَبُ إذا جاءَتْ بَيْنَ الكَلامِ بِجَحْدَيْنِ، كانَ الكَلامُ إخْبارًا، فَمَعْنى الآيَةِ: إنَّما جَعَلْناهم جَسَدًا لِيَأْكُلُوا الطَّعامَ. قالَ قَتادَةُ: المَعْنى: وما جَعَلْناهم جَسَدًا إلّا لِيَأْكُلُوا الطَّعامَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الوَعْدَ﴾ يَعْنِي: الأنْبِياءَ أنْجَزْنا وعْدَهُمُ الَّذِي وعَدْناهم بِإنْجائِهِمْ وإهْلاكِ مُكَذِّبِيهِمْ، ﴿فَأنْجَيْناهم ومَن نَشاءُ﴾ وهُمُ الَّذِينَ صَدَّقُوهم، ﴿وَأهْلَكْنا المُسْرِفِينَ﴾ يَعْنِي: أهْلَ الشِّرْكِ؛ وهَذا تَخْوِيفٌ لِأهْلِ مَكَّةَ. ثُمَّ ذَكَرَ مِنَّتَهُ عَلَيْهِمْ بِالقُرْآنِ، فَقالَ: ﴿لَقَدْ أنْزَلْنا إلَيْكم كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾، وفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: فِيهِ شَرَفُكم، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: فِيهِ دِينُكم، قالَهُ الحَسَنُ، يَعْنِي: فِيهِ ما تَحْتاجُونَ إلَيْهِ مِن أمْرِ دِينِكم. والثّالِثُ: فِيهِ تَذْكِرَةٌ لَكم لِما تَلْقَوْنَهُ مِن رَجْعَةٍ أوْ عَذابٍ، قالَهُ الزَّجّاجُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ ما فَضَّلْتُكم بِهِ عَلى غَيْرِكم.(p-٣٤٢)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب