الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم مِنّا الحُسْنى﴾ سَبَبُ نُزُولِها أنَّهُ لَمّا نَزَلَتْ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾، شَقَّ ذَلِكَ عَلى قُرَيْشٍ، وقالُوا: شَتَمَ آلِهَتَنا، فَجاءَ ابْنُ الزِّبَعْرى فَقالَ: ما لَكم ؟ قالُوا: شَتَمَ آلِهَتَنا، قالَ: وما قالَ ؟ فَأخْبَرُوهُ، فَقالَ: ادْعُوهُ لِي، فَلَمّا دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قالَ: يا مُحَمَّدُ؛ هَذا شَيْءٌ لِآلِهَتِنا خاصَّةً، أوْ لِكُلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ ؟ قالَ: " لا، بَلْ لِكُلِّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ "، فَقالَ ابْنُ الزِّبَعْرى: خُصِمْتَ ورَبِّ هَذِهِ البِنْيَةِ، ألَسْتَ تَزْعُمُ أنَّ المَلائِكَةَ عِبادٌ صالِحُونَ، وأنَّ عِيسى عَبْدٌ صالِحٌ، وأنَّ عُزَيْرًا عَبْدٌ صالِحٌ، (p-٣٩٣)فَهَذِهِ بَنُو مُلَيْحٍ يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ، وهَذِهِ النَّصارى تَعْبُدُ عِيسى، وهَذِهِ اليَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا، فَضَجَّ أهْلُ مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. وقالَ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: إنَّما أرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَما تَعْبُدُونَ﴾: الأصْنامَ دُونَ غَيْرِها؛ لِأنَّهُ لَوْ أرادَ المَلائِكَةَ والنّاسَ لَقالَ: ( ومَن ) . وقِيلَ: " إنَّ " بِمَعْنى ( إلّا )، فَتَقْدِيرُهُ: إلّا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهم مِنّا الحُسْنى، وهي قِراءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وأبِي نَهِيكٍ، فَإنَّهُما قَرَءا: ( إلّا الَّذِينَ ) . ورُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ، فَقالَ: أنا مِنهم، وأبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعُثْمانُ، وطَلْحَةُ، والزُّبَيْرُ، وسَعْدٌ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ. وَفِي المُرادِ " بِالحُسْنى " قَوْلانِ: أحَدُهُما: الجَنَّةُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ. والثّانِي: السَّعادَةُ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ عَنْها﴾؛ أيْ: عَنْ جَهَنَّمَ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها. ﴿مُبْعَدُونَ﴾ والبُعْدُ: طُولُ المَسافَةِ، والحَسِيسُ: الصَّوْتُ تَسْمَعُهُ مِنَ الشَّيْءِ إذا مَرَّ قَرِيبًا مِنكَ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا يَسْمَعُ أهْلُ الجَنَّةِ حَسِيسَ أهْلِ النّارِ إذا نَزَلُوا مَنازِلَهم مِنَ الجَنَّةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ﴾ وقَرَأ أبُو رَزِينٍ، وقَتادَةُ، (p-٣٩٤)وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وأبُو جَعْفَرٍ الشِّيْزَرِيُّ عَنِ الكِسائِيِّ: ( لا يُحْزِنُهم ) بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الزّايِ. وَفِي الفَزَعِ الأكْبَرِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ النَّفْخَةُ الآخِرَةُ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهَذِهِ النَّفْخَةِ يَقُومُ النّاسُ مِن قُبُورِهِمْ، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا الوَجْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَتَتَلَقّاهُمُ المَلائِكَةُ﴾ . والثّانِي: أنَّهُ إطْباقُ النّارِ عَلى أهْلِها، رَواهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ الضَّحّاكُ. والثّالِثُ: أنَّهُ ذَبْحُ المَوْتِ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ، وهو مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا، وبِهِ قالَ ابْنُ جُرَيْجٍ. والرّابِعُ: أنَّهُ حِينَ يُؤْمَرُ بِالعَبْدِ إلى النّارِ، قالَهُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ. وَفِي مَكانِ تَلَقِّي المَلائِكَةِ لَهم قَوْلانِ: أحَدُهُما: إذا قامُوا مِن قُبُورِهِمْ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّانِي: عَلى أبْوابِ الجَنَّةِ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَذا يَوْمُكُمُ﴾ فِيهِ إضْمارٌ: يَقُولُونَ، هَذا يَوْمُكُمُ ﴿الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ فِيهِ الجَنَّةَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ﴾ وقَرَأ أبُو العالِيَةِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، وأبُو جَعْفَرٍ: ( تُطْوى ) بِتاءٍ مَضْمُومَةٍ ( السَّماءُ ) بِالرَّفْعِ، وذَلِكَ بِمَحْوِ رُسُومِها، وتَكْدِيرِ نُجُومِها، وتَكْوِيرِ شَمْسِها. ﴿كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ: ( السِّجِلِّ ) بِكَسْرِ السِّينِ والجِيمِ وتَشْدِيدِ اللّامِ. وقَرَأ الحَسَنُ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، (p-٣٩٥)وَأبُو الجَوْزاءِ، ومَحْبُوبٌ عَنْ أبِي عَمْرٍو: ( السِّجْلِ ) بِكَسْرِ السِّينِ وإسْكانِ الجِيمِ خَفِيفَةً. وقَرَأ أبُو السَّمّاكِ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ فَتَحَ الجِيمَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِلْكُتُبِ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، ونافِعٌ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ: ( لِلْكِتابِ ) . وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: ( لِلْكُتُبِ ) عَلى الجَمْعِ. وَفِي ( السِّجِلِّ ) أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ مَلَكٌ، قالَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ عُمَرَ، والسُّدِّيُّ. والثّانِي: أنَّهُ كاتِبٌ كانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، رَواهُ أبُو الجَوْزاءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: أنَّ السِّجِلَّ بِمَعْنى: الرَّجُلِ، رَوى أبُو الجَوْزاءِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: السِّجِلُّ: هو الرَّجُلُ. قالَ شَيْخُنا أبُو مَنصُورٍ اللُّغَوِيُّ: وقَدْ قِيلَ: ( السِّجِلُّ ) بِلُغَةِ الحَبَشَةِ: الرَّجُلُ. والرّابِعُ: أنَّهُ الصَّحِيفَةُ، رَواهُ ابْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ مُجاهِدٌ، والفَرّاءُ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. وقَرَأْتُ عَلى شَيْخِنا أبِي مَنصُورٍ، قالَ: قالَ أبُو بَكْرٍ، يَعْنِي - ابْنَ دُرَيْدٍ -: السِّجِلُّ: الكِتابُ، واللَّهُ أعْلَمُ. ولا ألْتَفِتُ إلى قَوْلِهِمْ: إنَّهُ (p-٣٩٦)فارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ، والمَعْنى: كَما يُطْوى السِّجِلُّ عَلى ما فِيهِ مِن كِتابٍ. واللّامُ بِمَعْنى عَلى. وقالَ بَعْضُ العُلَماءِ: المُرادُ بِالكِتابِ: المَكْتُوبُ، فَلَمّا كانَ المَكْتُوبُ يَنْطَوِي بِانْطِواءِ الصَّحِيفَةِ، جُعِلَ السِّجِلُّ كَأنَّهُ يَطْوِي الكِتابَ. ثُمَّ اسْتَأْنَفَ، فَقالَ تَعالى: ﴿كَما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ الخَلْقُ هاهُنا مَصْدَرٌ، ولَيْسَ بِمَعْنى المَخْلُوقِ. وَفِي مَعْنى الكَلامِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: كَما بَدَأْناهم في بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، كَذَلِكَ نُعِيدُهم يَوْمَ القِيامَةِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: " «يُحْشُرُ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ عُراةً حُفاةً غُرْلًا كَما خُلِقُوا، ثُمَّ قَرَأ: ﴿كَما بَدَأْنا أوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ﴾ "»، وإلى هَذا المَعْنى ذَهَبَ مُجاهِدٌ. والثّانِي: أنَّ المَعْنى: إنّا نُهْلِكُ كُلَّ شَيْءٍ كَما كانَ أوَّلَ مَرَّةٍ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: أنَّ السَّماءَ تُمْطِرُ أرْبَعِينَ يَوْمًا كَمَنِيِّ الرِّجالِ، فَيَنْبُتُونَ بِالمَطَرِ في قُبُورِهِمْ كَما يَنْبُتُونَ في بُطُونِ أُمَّهاتِهِمْ، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والرّابِعُ: أنَّ المَعْنى: قُدْرَتُنا عَلى الإعادَةِ كَقُدْرَتِنا عَلى الِابْتِداءِ، قالَهُ الزَّجّاجُ. (p-٣٩٧) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَعْدًا﴾ قالَ الزَّجّاجُ: هو مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿نُعِيدُهُ﴾ بِمَعْنى: وعَدْنا هَذا وعْدًا. ﴿إنّا كُنّا فاعِلِينَ﴾؛ أيْ: قادِرِينَ عَلى فِعْلِ ما نَشاءُ. وقالَ غَيْرُهُ: إنّا كُنّا فاعِلِينَ ما وعَدْنا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّ الزَّبُورَ: جَمِيعُ الكُتُبِ المُنَزَّلَةِ مِنَ السَّماءِ، والذِّكْرَ: أُمُّ الكِتابِ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ في رِوايَةٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ في رِوايَةِ ابْنِ جُبَيْرٍ، فَإنَّهُ قالَ: الزَّبُورُ: التَّوْراةُ والإنْجِيلُ والقُرْآنُ، والذِّكْرُ: الَّذِي في السَّماءِ. والثّانِي: أنَّ الزَّبُورَ: الكُتُبُ، والذِّكْرَ: التَّوْراةُ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: أنَّ الزَّبُورَ: القُرْآنُ، والذِّكْرَ: التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ في رِوايَةٍ. والرّابِعُ: أنَّ الزَّبُورَ: زَبُورُ داوُدَ، والذِّكْرَ: ذِكْرُ مُوسى، قالَهُ الشَّعْبِيُّ. وفي الأرْضِ المَذْكُورَةِ هاهُنا ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ أرْضُ الجَنَّةِ، رَواهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ الأكْثَرُونَ. والثّانِي: أرْضُ الدُّنْيا، وهو مَنقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا. والثّالِثُ: الأرْضُ المُقَدَّسَةُ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ﴾ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهم أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ، رَواهُ ابْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وفي رِوايَةٍ: تَرِثُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ أرْضَ الدُّنْيا بِالفُتُوحِ. والثّانِي: بَنُو إسْرائِيلَ، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. (p-٣٩٨) والثّالِثُ: أنَّهُ عامٌّ في كُلِّ صالِحٍ، قالَهُ بَعْضُ فُقَهاءِ المُفَسِّرِينَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ في هَذا﴾ يَعْنِي: القُرْآنَ، ﴿لَبَلاغًا﴾؛ أيْ: لَكِفايَةً، والمَعْنى: أنَّ مَنِ اتَّبَعَ القُرْآنَ وعَمِلَ بِهِ، كانَ القُرْآنُ بَلاغَهُ إلى الجَنَّةِ. وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِقَوْمٍ عابِدِينَ﴾ قالَ كَعْبٌ: هم أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ الَّذِينَ يُصَلُّونَ الصَّلَواتِ الخَمْسَ، ويَصُومُونَ شَهْرَ رَمَضانَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْناكَ إلا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا عامٌّ لِلْبَرِّ والفاجِرِ، فَمَن آمَنَ بِهِ تَمَّتْ لَهُ الرَّحْمَةُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، ومَن كَفَرَ بِهِ صُرِفَتْ عَنْهُ العُقُوبَةُ إلى المَوْتِ والقِيامَةِ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: هو رَحْمَةٌ لِمَن آمَنَ بِهِ خاصَّةً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب