الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ﴾؛ أيْ: أمَرْناهُ وأوْصَيْناهُ أنْ لا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ، ﴿مِن قَبْلُ﴾؛ أيْ: مِن قَبْلِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدِي وتَرَكُوا (p-٣٢٨)الإيمانَ بِي، وهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهم في قَوْلِهِ: ﴿لَعَلَّهم يَتَّقُونَ﴾، والمَعْنى: أنَّهم إنْ نَقَضُوا العَهْدَ، فَإنَّ آدَمَ قَدْ عَهِدْنا إلَيْهِ فَنَسِيَ. وَفِي هَذا النِّسْيانِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ التَّرْكُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ، والمَعْنى: تَرَكَ ما أُمِرَ بِهِ. والثّانِي: أنَّهُ مِنَ النِّسْيانِ الَّذِي يُخالِفُ الذِّكْرَ، حَكاهُ الماوَرْدِيُّ. وَقَرَأ مُعاذٌ القارِئُ، وعاصِمٌ الجَحْدَرِيُّ، وابْنُ السَّمَيْفَعِ: ( فَنُسِّيَ ) بِرَفْعِ النُّونِ وتَشْدِيدِ السِّينِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ العَزْمُ في اللُّغَةِ: تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلى الفِعْلِ. وفي المَعْنى أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: لَمْ نَجِدْ لَهُ حِفْظًا، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، والمَعْنى: لَمْ يَحْفَظْ ما أُمِرَ بِهِ. والثّانِي: صَبْرًا، قالَهُ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ، والمَعْنى: لَمْ يَصْبِرْ عَمّا نُهِيَ عَنْهُ. والثّالِثُ: حَزْمًا، قالَهُ ابْنُ السّائِبِ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: وهَذا لا يُخْرِجُ آدَمَ مِن أُولِي العَزْمِ، وإنَّما لَمْ يَكُنْ لَهُ عَزْمٌ في الأكْلِ فَحَسْبُ. والرّابِعُ: عَزْمًا في العَوْدِ إلى الذَّنْبِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. وما بَعْدُ هَذا قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ [ البَقَرَة: ٣٤ ] إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقى﴾ . قالَ المُفَسِّرُونَ: المُرادُ بِهِ: نَصَبُ الدُّنْيا وتَعَبُها مِن تَكَلُّفِ الحَرْثِ والزَّرْعِ، والعَجْنِ والخَبْزِ، وغَيْرِ ذَلِكَ. قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أُهْبِطَ إلى آدَمَ ثَوْرٌ أحْمَرُ، فَكانَ يَعْتَمِلُ عَلَيْهِ ويَمْسَحُ العَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، فَذَلِكَ شَقاؤُهُ. قالَ العُلَماءُ: والمَعْنى: فَتَشْقَيا، وإنَّما لَمْ يَقُلْ: فَتَشْقَيا؛ لِوَجْهَيْنِ: (p-٣٢٩) أحَدُهُما: أنَّ آدَمَ هو المُخاطَبُ، فاكْتُفِيَ بِهِ، ومِثْلُهُ: ﴿عَنِ اليَمِينِ وعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ﴾ [ ق: ١٧ ]، قالَهُ الفَرّاءُ. والثّانِي: أنَّهُ لَمّا كانَ آدَمُ هو الكاسِبُ، كانَ التَّعَبُ في حَقِّهِ أكْثَرَ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ لَكَ ألا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى﴾ قَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: ( لا تُجاعَ ولا تُعَرى ) بِالتّاءِ المَضْمُومَةِ والألِفِ. ﴿وَأنَّكَ لا تَظْمَأُ﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: ( وأنَّكَ ) مَفْتُوحَةَ الألِفِ. وقَرَأ نافِعٌ وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: ( وإنَّكَ ) بِكَسْرِ الألِفِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: مَن فَتَحَ حَمَلَهُ عَلى أنَّ لَكَ أنْ لا تَجُوعَ، وأنَّ لَكَ أنْ لا تَظْمَأ، ومِن كَسَرَ اسْتَأْنَفَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَظْمَأُ فِيها﴾؛ أيْ: لا تَعْطَشُ، يُقالُ: ظَمِئَ الرَّجُلُ ظَمَأً فَهو ظَمْآنُ؛ أيْ: عَطْشانُ. ومَعْنى " لا تَضْحى ": لا تَبْرُزُ لِلشَّمْسِ فَيُصِيبُكَ حَرُّها؛ لِأنَّهُ لَيْسَ في الجَنَّةِ شَمْسٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ﴾؛ أيْ: عَلى شَجَرَةٍ مَن أكَلَ مِنها لَمْ يَمُتْ، ﴿وَمُلْكٍ لا يَبْلى﴾ جَدِيدُهُ ولا يَفْنى. وما بَعْدَ هَذا مُفَسَّرٌ في [ الأعْرافِ: ٢٢ ] . وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَغَوى﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: ضَلَّ طَرِيقَ الخُلُودِ، حَيْثُ أرادَهُ مِن قَبْلِ المَعْصِيَةِ. والثّانِي: فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ؛ لِأنَّ مَعْنى الغَيِّ: الفَسادُ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: وقَدْ غَلِطَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ، فَقالَ مَعْنى ﴿غَوى﴾: أكْثَرَ مِمّا أكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ حَتّى بَشِمَ، كَما يُقالُ: غَوى الفَصِيلُ: إذا أكْثَرَ مِن لَبَنِ أُمِّهِ فَبَشِمَ، فَكادَ يَهْلَكُ، وهَذا خَطَأٌ مِن وجْهَيْنِ: (p-٣٣٠) أحَدُهُما: أنَّهُ لا يُقالُ مِنَ البَشَمِ: غَوى يَغْوِي، وإنَّما يُقالُ: غَوِيَ يَغْوى. والثّانِي: أنَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا ذاقا الشَّجَرَةَ﴾ [ الأعْراف: ٢٢ ] يَدُلُّ عَلى أنَّهُما لَمْ يُكْثِرا، ولَمْ تَتَأخَّرْ عَنْهُما العُقُوبَةُ حَتّى يَصِلا إلى الإكْثارِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَنَحْنُ نَقُولُ في حَقِّ آدَمَ: عَصى وغَوى، كَما قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، ولا نَقُولُ: آدَمُ عاصٍ وغاوٍ، كَما تَقُولُ لِرَجُلٍ قَطَعَ ثَوْبَهُ وخاطَهُ: قَدْ قَطَعَهُ وخاطَهُ، ولا نَقُولُ: هَذا خَيّاطٌ، حَتّى يَكُونَ مُعاوِدًا لِذَلِكَ الفِعْلِ مَعْرُوفًا بِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ﴾ قَدْ بَيَّنّا الِاجْتِباءَ في ( الأنْعامِ: ٨٧ )، ﴿فَتابَ عَلَيْهِ وهَدى﴾؛ أيْ: هَداهُ لِلتَّوْبَةِ. ﴿قالَ اهْبِطا﴾ في المُشارِ إلَيْهِما قَوْلانِ: أحَدُهُما: آدَمُ وإبْلِيسُ، قالَهُ مُقاتِلٌ. والثّانِي: آدَمُ وحَوّاءُ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. ومَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿بَعْضُكم لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ آدَمُ وذُرِّيَتُهُ، وإبْلِيسُ وذُرِّيَتُهُ، والحَيَّةُ أيْضًا، وقَدْ شَرَحْنا هَذا في ( البَقَرَةِ: ٣٦ ) . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ﴾؛ أيْ: رَسُولِي وكِتابِي، ﴿فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَن قَرَأ القُرْآنَ واتَّبَعَ ما فِيهِ، هَداهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلالَةِ ووَقاهُ سُوءَ الحِسابِ، ولَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لِمَنِ اتَّبَعَ القُرْآنَ أنْ لا يَضِلَّ في الدُّنْيا ولا يَشْقى في الآخِرَةِ، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمَن أعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي﴾ قالَ عَطاءٌ: عَنْ مَوْعِظَتِي. وقالَ ابْنُ السّائِبِ: عَنِ القُرْآنِ، ولَمْ يُؤْمِن بِهِ، ولَمْ يَتَّبِعْهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: مَعْناهُ: مَعِيشَةٌ ضَيِّقَةٌ، والضَّنْكُ يُوصَفُ بِهِ الأُنْثى والذَّكَرُ بِغَيْرِ هاءٍ، وكُلُّ عَيْشٍ، أوْ مَكانٍ، أوْ مَنزِلٍ ضَيِّقٍ، فَهو ضَنْكٌ، وأنْشَدَ: (p-٣٣١) ؎ وإنْ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فانْزِلْ وَقالَ الزَّجّاجُ: الضَّنْكُ أصْلُهُ في اللُّغَةِ: الضِّيقُ والشِّدَّةُ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ في المُرادِ بِهَذِهِ المَعِيشَةِ خَمْسَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها عَذابُ القَبْرِ، رَوى أبُو هُرَيْرَةَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: " أتُدْرُونَ ما المَعِيشَةُ الضَّنْكُ ؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، قالَ: عَذابُ الكافِرِ في قَبْرِهِ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّهُ لِيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ تِنِّينًا يَنْفُخُونَ في جِسْمِهِ، ويَلْسَعُونَهُ ويَخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ "» . ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى أنَّهُ عَذابُ القَبْرِ ابْنُ مَسْعُودٍ، وأبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ، والسُّدِّيُّ. والثّانِي: أنَّهُ ضَغْطَةُ القَبْرِ حَتّى تَخْتَلِفَ أضْلاعُهُ فِيهِ، رَواهُ عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: شِدَّةُ عَيْشِهِ في النّارِ، رَواهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وبِهِ قالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ. قالَ ابْنُ السّائِبِ: وتِلْكَ المَعِيشَةُ مِنَ الضَّرِيعِ والزَّقُّومِ. والرّابِعُ: أنَّ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ: كَسْبُ الحَرامِ، رَوى الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: المَعِيشَةُ الضَّنْكُ: أنْ تُضَيَّقَ عَلَيْهِ أبْوابُ الخَيْرِ فَلا يُهْتَدى لِشَيْءٍ مِنها، ولَهُ (p-٣٣٢)مَعِيشَةٌ حَرامٌ يَرْكُضُ فِيها. قالَ الضَّحّاكُ: فَهَذِهِ المَعِيشَةُ هي الكَسْبُ الخَبِيثُ، وبِهِ قالَ عِكْرِمَةُ. والخامِسُ: أنَّ المَعِيشَةَ الضَّنْكَ: المالُ الَّذِي لا يَتَّقِي اللَّهَ صاحِبُهُ فِيهِ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. فَخَرَجَ في مَكانِ المَعِيشَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: القَبْرُ. والثّانِي: الدُّنْيا. والثّالِثُ: جَهَنَّمُ. وَفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ: ( أعْمى ) ( حَشَرْتَنِي أعْمى ) بِفَتْحِ المِيمَيْنِ. وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وأبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ بِكَسْرِهِما. وقَرَأ نافِعٌ بَيْنَ الكَسْرِ والفَتْحِ. ثُمَّ في هَذا العَمى لِلْمُفَسِّرِينَ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أعْمى البَصَرِ، رَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: إذا أُخْرِجَ مِنَ القَبْرِ خَرَجَ بَصِيرًا، فَإذا سِيقَ إلى المَحْشَرِ عَمِيَ. والثّانِي: أعْمى عَنِ الحُجَّةِ، قالَهُ مُجاهِدٌ وأبُو صالِحٍ. قالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: فَلا حُجَّةَ لَهُ يَهْتَدِي بِها؛ لِأنَّهُ لَيْسَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أيِ: الأمْرُ كَذَلِكَ كَما تَرى، ﴿أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها﴾؛ أيْ: فَتَرَكْتَها ولَمْ تُؤْمِن بِها، وكَما تَرَكَتْها في الدُّنْيا تُتْرَكُ اليَوْمَ في النّارِ. ﴿وَكَذَلِكَ﴾؛ أيْ: وكَما ذَكَرْنا ﴿نَجْزِي مَن أسْرَفَ﴾؛ أيْ: أشْرَكَ، ﴿وَلَعَذابُ الآخِرَةِ أشَدُّ﴾ مِن عَذابِ الدُّنْيا ومِن عَذابِ القَبْرِ، ﴿وَأبْقى﴾ لِأنَّهُ يَدُومُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب