الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ﴾ قالَ المُفَسِّرُونُ: " مِن " زائِدَةٌ، والمَعْنى: اخْتَلَفُوا بَيْنَهم. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: لَمّا تَمَسَّكَ المُؤْمِنُونَ بِالحَقِّ، كانَ اخْتِلافُ الأحْزابِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ. وَفِي " الأحْزابِ " قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُمُ اليَهُودُ والنَّصارى، فَكانَتِ اليَهُودُ تَقُولُ: إنَّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، والنَّصارى تَدَّعِي فِيهِ ما لا يَلِيقُ بِهِ. (p-٢٣٣)والثّانِي: أنَّهم فِرَقُ النَّصارى، قالَ بَعْضُهُمْ: هو اللَّهُ، وقالَ بَعْضُهُمُ: ابْنُ اللَّهِ، وقالَ بَعْضُهُمْ: ثالِثُ ثَلاثَةٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِقَوْلِهِمْ في المَسِيحِ، ﴿مِن مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾؛ أيْ: مِن حُضُورِهِمْ ذَلِكَ اليَوْمَ لِلْجَزاءِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّ لَفْظَهُ لَفْظُ الأمْرِ، ومَعْناهُ الخَبَرُ، فالمَعْنى: ما أسْمَعَهم وأبْصَرَهم يَوْمَ القِيامَةِ، سَمِعُوا وأبْصَرُوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهم ذَلِكَ؛ لِأنَّهم شاهَدُوا مِن أمْرِ اللَّهِ ما لا يَحْتاجُونَ مَعَهُ إلى نَظَرٍ وفِكْرٍ، فَعَلِمُوا الهُدى وأطاعُوا، هَذا قَوْلُ الأكْثَرِينَ. والثّانِي: أسْمِعْ بِحَدِيثِهِمُ اليَوْمَ وأبْصِرْ كَيْفَ يَصْنَعُ بِهِمْ ﴿يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾، قالَهُ أبُو العالِيَةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَكِنِ الظّالِمُونَ﴾ يَعْنِي: المُشْرِكِينَ والكُفّارِ، ﴿اليَوْمَ﴾ يَعْنِي: في الدُّنْيا ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأنْذِرْهُمْ﴾؛ أيْ: خَوِّفْ كُفّارَ مَكَّةَ، ﴿يَوْمَ الحَسْرَةِ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ القِيامَةِ، يَتَحَسَّرُ المُسِيءُ إذْ لَمْ يُحْسِنْ، والمُقَصِّرُ إذْ لَمْ يَزْدَدْ مِنَ الخَيْرِ. وَمُوجِباتُ الحَسْرَةِ يَوْمَ القِيامَةِ كَثِيرَةٌ، فَمِن ذَلِكَ ما رَوى أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: " «إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وأهْلُ النّارِ النّارَ، قِيلَ: يا أهْلَ الجَنَّةِ؛ فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، وقِيلَ: يا أهْلَ النّارِ؛ فَيَشْرَئِبُّونَ ويَنْظُرُونَ، فَيُجاءُ بِالمَوْتِ كَأنَّهُ كَبْشٌ أمْلَحُ، فَيُقالُ لَهُمْ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذا ؟ (p-٢٣٤)فَيَقُولُونُ: هَذا المَوْتُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يُقالَ: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، ويا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتَ، ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ﴿وَأنْذِرْهم يَوْمَ الحَسْرَةِ إذْ قُضِيَ الأمْرُ وهم في غَفْلَةٍ وهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ "» . قالَ المُفَسِّرُونُ: فَهَذِهِ هي الحَسْرَةُ إذا ذُبِحَ المَوْتُ، فَلَوْ ماتَ أحَدٌ فَرِحا ماتَ أهْلُ الجَنَّةِ، ولَوْ ماتَ أحَدٌ حُزْنًا ماتَ أهْلُ النّارِ. وَمِن مُوجِباتِ الحَسْرَةِ ما رَوى عَدِيُّ بْنُ حاتِمٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: " «يُؤْتى يَوْمَ القِيامَةِ بِناسٍ إلى الجَنَّةِ، حَتّى إذا دَنَوْا مِنها، واسْتَنْشَقُوا رِيحَها، ونَظَرُوا إلى قُصُورِها، نُودُوا: أنِ اصْرِفُوهم عَنْها، لا نُصِيبُ لَهم فِيها، فَيَرْجِعُونَ بِحَسْرَةٍ ما رَجَعَ الأوَّلُونَ بِمِثْلِها، فَيَقُولُونُ: يا رَبَّنا لَوْ أدْخَلْتَنا النّارَ قَبْلَ أنْ تُرِيَنا ما أرَيْتَنا كانَ أهْوَنَ عَلَيْنا، قالَ: ذَلِكَ أرَدْتُ بِكُمْ، كُنْتُمْ إذا خَلَوْتُمْ بارَزْتُمُونِي بِالعَظائِمِ، وإذا لَقِيتُمُ النّاسَ لَقِيتُمُوهم مُخْبِتِينِ، تُراؤُونَ النّاسَ بِخِلافِ ما تُعْطُونِي مِن قُلُوبِكُمْ، هِبْتُمُ النّاسَ ولَمْ تَهابُونِي، وأجْلَلْتُمُ النّاسَ ولَمْ تُجِلُّونِي، تَرَكْتُمْ لِلنّاسِ ولَمْ تَتْرُكُوا لِي، فاليَوْمَ أُذِيقُكُمُ العَذابَ مَعَ ما حَرَمْتُكم مِنَ الثَّوابِ» " . وَمِن مُوجِباتِ الحَسْرَةِ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قالَ: لَيْسَ مِن نَفْسٍ يَوْمَ القِيامَةِ إلّا وهي تَنْظُرُ إلى بَيْتٍ في الجَنَّةِ وبَيْتٍ في النّارِ، ثُمَّ يُقالُ - يَعْنِي: لِهَؤُلاءِ -: لَوْ عَمِلْتُمْ، ولِأهْلِ الجَنَّةِ: لَوْلا أنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكم. (p-٢٣٥) وَمِن مُوجِباتِ الحَسْرَةِ قَطْعُ الرَّجاءَ عِنْدَ إطْباقِ النّارِ عَلى أهْلِها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قُضِيَ الأمْرُ﴾ قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: " قُضِيَ " في اللُّغَةِ بِمَعْنى: أُتْقِنَ وأُحْكِمَ، وإنَّما سُمِّيَ الحاكِمُ قاضِيًا لِإتْقانِهِ وإحْكامِهِ ما يُنَفِّذُ. وفي الآَيَةِ اخْتِصارٌ، والمَعْنى: إذْ قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ هَلاكُهم. وَلِلْمُفَسِّرِينَ في الأمْرِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ ذَبْحُ المَوْتِ، قالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ والسُّدِّيُّ. والثّانِي: أنَّ المَعْنى: قُضِيَ العَذابُ لَهُمْ، قالَهُ مُقاتِلٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم في غَفْلَةٍ﴾؛ أيْ: هم في الدُّنْيا في غَفْلَةٍ عَمّا يُصْنَعُ بِهِمْ ذَلِكَ اليَوْمَ، ﴿وَهم لا يُؤْمِنُونَ﴾ بِما يَكُونُ في الآَخِرَةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ﴾؛ أيْ: نُمِيتُ سُكّانَها فَنَرِثُها، ﴿وَمَن عَلَيْها وإلَيْنا يُرْجَعُونَ﴾ بَعْدَ المَوْتِ. فَإنْ قِيلَ: ما الفائِدَةُ في " نَحْنُ " وقَدْ كَفَتْ عَنْها " إنّا " ؟ فالجَوابُ: أنَّهُ لَمّا جازَ في قَوْلِ المُعَظِّمِ: ( إنّا نَفْعَلُ )، أنْ يُوهِمَ أنَّ أتْباعَهُ فَعَلُوا، أبانَتْ " نَحْنُ " بِأنَّ الفِعْلَ مُضافٌ إلَيْهِ حَقِيقَةً. فَإنْ قِيلَ: فَلِمَ قالَ: ﴿وَمَن عَلَيْها﴾، وهو يَرِثُ الآَدَمِيِّينَ وغَيْرِهِمْ ؟ فالجَوابُ: أنَّ " مَن " تَخْتَصُّ أهْلَ التَّمْيِيزِ، وغَيْرَ المُمَيِّزِينَ يَدْخُلُونَ في مَعْنى الأرْضِ ويُجْرُونَ مَجْراها، ذَكَرَ الجَوابَيْنِ عَنِ السُّؤالَيْنِ ابْنُ الأنْبارِيِّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب