الباحث القرآني

(p-١٠٢)سُورَةُ الكَهْفِ * فَصْلٌ في نُزُولِها رَوى أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ سُورَةَ ( الكَهْفِ ) مَكِّيَّةٌ، وكَذَلِكَ قالَ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. وهَذا إجْماعُ المُفَسِّرِينَ مِن غَيْرِ خِلافٍ نَعْلَمُهُ، إلّا أنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَتادَةَ أنَّ مِنها آَيَةً مَدَنِيَّةً، وهي قَوْلُهُ: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ﴾ [ الكَهْفِ: ٢٨ ] . وقالَ مُقاتِلٌ: مِن أوَّلِها إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿صَعِيدًا جُرُزًا﴾ [ الكَهْفِ: ٨ ] مَدَنِيٌّ، و قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [ الكَهْفِ: ١٠٧، ١٠٨ ] الآَيَتانِ مَدَنِيَّةٌ، وباقِيها مَكِّيٌّ. ورَوى أبُو الدَّرْداءِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنَّهُ قالَ: " «مَن حَفِظَ عَشْرَ آَياتٍ مِن أوَّلِ الكَهْفِ، ثُمَّ أدْرَكَ الدَّجّالَ لَمْ يَضُرَّهُ، ومَن حَفِظَ خَواتِيمَ سُورَةِ الكَهْفِ كانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ القِيامَةِ» " . (p-١٠٣) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ﴾ قَدْ شَرَحْناهُ في أوَّلِ ( الفاتِحَةِ ) . والمُرادُ بِعَبْدِهِ هاهُنا: مُحَمَّدٌ ﷺ، وبِالكِتابِ: القُرْآَنُ، تَمَدَّحَ بِإنْزالِهِ؛ لِأنَّهُ إنْعامٌ عَلى الرَّسُولِ خاصَّةً، وعَلى النّاسِ عامَّةً. قالَ العُلَماءُ بِاللُّغَةِ والتَّفْسِيرِ: في هَذِهِ الآَيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُا: أنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الكِتابَ ﴿قَيِّمًا﴾؛ أيْ: مُسْتَقِيمًا عَدْلًا. وقَرَأ أبُو رَجاءٍ، وأبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو الجَوْزاءِ، وابْنُ يَعْمُرَ، والنَّخَعِيُّ، والأعْمَشُ: ( قِيَمًا ) بِكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الياءِ، وقَدْ فَسَّرْناهُ في ( الأنْعامِ: ١٦١ ) . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا﴾؛ أيْ: لَمْ يَجْعَلْ فِيهِ اخْتِلافًا، وقَدْ سَبَقَ بَيانُ العِوَجِ في ( آَلِ عِمْرانَ: ٩٩ ) . قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا﴾؛ أيْ: عَذابًا شَدِيدًا، ﴿مِن لَدُنْهُ﴾؛ أيْ: مِن عِنْدِهِ، ومِن قَبْلِهِ، والمَعْنى: لِيُنْذِرَ الكافِرِينَ، ﴿وَيُبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحاتِ أنَّ لَهُمْ﴾؛ أيْ: بِأنَّ لَهم ﴿أجْرًا حَسَنًا﴾ وهو الجَنَّةُ. ﴿ماكِثِينَ﴾؛ (p-١٠٤)أيْ: مُقِيمِينَ، وهو مَنصُوبٌ عَلى الحالِ. ﴿وَيُنْذِرَ﴾ بِعَذابِ اللَّهِ ﴿الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ وهُمُ اليَهُودُ حِينَ قالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، والنَّصارى حِينَ قالُوا: المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، والمُشْرِكُونَ حِينَ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، ﴿ما لَهم بِهِ﴾؛ أيْ: بِذَلِكَ القَوْلِ ﴿مِن عِلْمٍ﴾؛ لِأنَّهم قالُوا: افْتَرى عَلى اللَّهِ، ﴿وَلا لآبائِهِمْ﴾ الَّذِينَ قالُوا ذَلِكَ، ﴿كَبُرَتْ﴾؛ أيْ: عَظُمَتْ ﴿كَلِمَةً﴾ الجُمْهُورِ عَلى النَّصْبِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وأبُو رَزِينٍ، وأبُو رَجاءٍ، ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ: ( كَلِمَةٌ ) بِالرَّفْعِ. قالَ الفَرّاءُ مَن نَصَبَ أضْمَرَ: كَبُرَتْ تِلْكَ الكَلِمَةُ كَلِمَةً، ومِن رَفَعَ لَمْ يُضْمِرْ شَيْئًا، كَما تَقُولُ: عَظُمَ قَوْلُكَ. وقالَ الزَّجّاجُ: مَن نَصَبَ فالمَعْنى: كَبُرَتْ مَقالَتُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا كَلِمَةً، و " كَلِمَةً " مَنصُوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ. ومَن رَفَعَ فالمَعْنى: عَظُمَتْ كَلِمَةً هي قَوْلُهُمْ: اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿تَخْرُجُ مِن أفْواهِهِمْ﴾؛ أيْ: إنَّها قَوْلٌ بِالفَمِ لا صِحَّةَ لَها، ولا دَلِيلَ عَلَيْها، ﴿إنْ يَقُولُونَ﴾؛ أيْ: ما يَقُولُونَ ﴿إلا كَذِبًا﴾ . ثُمَّ عاتَبَهُ عَلى حُزْنِهِ لِفَوْتِ ما كانَ يَرْجُو مِن إسْلامِهِمْ، فَقالَ: ﴿فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ﴾ وقَرَأ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو الجَوْزاءِ، وقَتادَةُ: ( باخِعٌ نَفْسِكَ ) بِكَسْرِ السِّينِ عَلى الإضافَةِ. قالَ المُفَسِّرُونَ واللُّغَوِيُّونَ: فَلَعَلَّكَ مُهْلِكٌ نَفْسَكَ، وقاتَلٌ نَفْسَكَ، وأنْشَدَأبُو عُبَيْدَةَ لِذِي الرُّمَّةِ: ؎ ألا أيُّهَذا الباخِعُ الوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ المَقادِرُ أيْ: نَحَّتْهُ (p-١٠٥) فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ قالَ: " فَلَعَلَّكَ " والغالِبُ عَلَيْها الشَّكُ، واللَّهُ عالِمٌ بِالأشْياءِ قَبْلَ كَوْنِها ؟ فالجَوابُ: أنَّها لَيْسَتْ بِشَكٍّ، إنَّما هي مُقَدَّرَةٌ تَقْدِيرَ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي يَعْنِي بِهِ التَّقْرِيرُ، فالمَعْنى: هَلْ أنْتَ قاتِلٌ نَفْسَكَ ؟ لا يَنْبَغِي أنْ يَطُولَ أساكَ عَلى إعْراضِهِمْ، فَإنَّ مَن حَكَمْنا عَلَيْهِ بِالشِّقْوَةِ لا تُجْدِي عَلَيْهِ الحَسْرَةُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلى آثارِهِمْ﴾؛ أيْ: مِن بَعْدِ تَوَلِّيهِمْ عَنْكَ، ﴿إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذا الحَدِيثِ﴾ يَعْنِي: القُرْآَنَ، ﴿أسَفًا﴾ وفِيهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: حَزَنًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ قُتَيْبَةَ. والثّانِي: جَزَعًا، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّالِثُ: غَضَبًا، قالَهُ قَتادَةُ. والرّابِعُ: نَدَمًا، قالَهُ السُّدِّيُّ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: نَدَمًا وتَلَهُّفًا وأسًى. قالَ الزَّجّاجُ: الأسَفُ: المُبالَغَةُ في الحُزْنِ أوِ الغَضَبِ، يُقالُ: قَدْ أسِفَ الرَّجُلُ فَهو أسِيفٌ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ أرى رَجُلًا مِنهم أسَيْفًا كَأنَّما ∗∗∗ يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفًّا مُخَضَّبًا وَهَذِهِ الآَيَةُ يُشِيرُ بِها إلى نَهْيِ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَنْ كَثْرَةِ الحِرْصِ عَلى إيمانِ قَوْمِهِ؛ لِئَلّا يُؤَدِّيَ ذَلِكَ إلى هَلاكِ نَفْسِهِ بِالأسَفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب