الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ. . .﴾ الآَيَةُ. هَذِهِ الآَيَةُ نَزَلَتْ عَلى سَبَبَيْنِ: [ نَزَلَ ] أوَّلُها إلى قَوْلِهِ: ﴿الحُسْنى﴾ عَلى سَبَبٍ، وفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَهَجَّدَ ذاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ في سُجُودِهِ: " يا رَحْمَنُ يا رَحِيمُ "، فَقالَ المُشْرِكُونَ: كانَ مُحَمَّدٌ يَدْعُو إلَهًا واحِدًا، فَهو الآَنَ (p-٩٩)يَدْعُو إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ: اللَّهُ والرَّحْمَنُ، ما نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلّا رَحْمَنَ اليَمامَةِ، يَعْنُونَ: مُسَيْلِمَةَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآَيَةَ،» قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يَكْتُبُ في أوَّلِ ما أُوحِيَ إلَيْهِ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، حَتّى نَزَلَ: ﴿إنَّهُ مِن سُلَيْمانَ وإنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [ النَّمْلِ: ٣٠ ]، فَكَتَبَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فَقالَ مُشْرِكُو العَرَبِ: هَذا الرَّحِيمُ نَعْرِفُهُ، فَما الرَّحْمَنُ ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآَيَةُ،» قالَهُ مَيْمُونُ بْنُ مَهْرانَ. والثّالِثُ: أنَّ أهْلَ الكِتابِ قالُوا لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: إنَّكَ لِتُقِلُّ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ، وقَدْ أكْثَرَ اللَّهُ في التَّوْراةِ هَذا الِاسْمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآَيَةُ، قالَهُ الضَّحّاكُ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾ فَنَزَلَ عَلى سَبَبٍ، وفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالقُرْآَنِ بِمَكَّةَ، فَيَسُبُّ المُشْرِكُونَ القُرْآَنَ ومَن أتى بِهِ، فَخَفَضَ رَسُولُ اللهِ ﷺ صَوْتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتّى لَمْ يُسْمِعْ أصْحابَهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾؛ أيْ: بِقِراءَتِكَ، فَيَسْمَعُ المُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا القُرْآَنَ، " ولا تُخافِتْ بِها " عَنْ أصْحابِكَ فَلا يَسْمَعُونَ»، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّ الأعْرابِيَّ كانَ يَجْهَرُ في التَّشَهُّدِ ويَرْفَعُ صَوْتَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآَيَةُ، هَذا قَوْلُ عائِشَةَ. والثّالِثُ: «أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كانَ يُصَلِّي بِمَكَّةَ عِنْدَ الصَّفا، فَجَهَرَ بِالقُرْآَنِ في صَلاةِ الغَداةِ، فَقالَ أبُو جَهْلٍ: لا تَفْتَرِ عَلى اللَّهِ، فَخَفَضَ النَّبِيُّ ﷺ صَوْتَهُ، فَقالَ (p-١٠٠)أبُو جَهْلٍ لِلْمُشْرِكِينَ: ألا تَرَوْنَ ما فَعَلْتُ بِابْنِ أبِي كَبْشَةَ ؟ رَدَدْتُهُ عَنْ قِراءَتِهِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآَيَةُ،» قالَهُ مُقاتِلٌ. فَأمّا التَّفْسِيرُ، فَقَوْلُهُ: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ المَعْنى: إنْ شِئْتُمْ فَقُولُوا: يا أللَّهُ، وإنْ شِئْتُمْ فَقُولُوا: يا رَحْمَنُ؛ فَإنَّهُما يَرْجِعانِ إلى واحِدٍ. ﴿أيًّا ما تَدْعُوا﴾ المَعْنى: أيُّ أسْماءِ اللَّهِ تَدْعُوا، قالَ الفَرّاءُ: و " ما " قَدْ تَكُونُ صِلَةً، كَقَوْلِهِ: ﴿عَمّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ﴾ [ المُؤْمِنُونَ: ٤٠ ]، وتَكُونُ في مَعْنى: " أيُّ " مُعادَةٍ لِما اخْتَلَفَ لَفْظُهُما. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها الصَّلاةُ الشَّرْعِيَّةُ. ثُمَّ في المُرادِ بِالكَلامِ سِتَّةُ أقْوالٍ: أحَدُها: لا تَجْهَرْ بِقِراءَتِكَ ولا تُخافِتْ بِها، فَكَأنَّهُ نُهِيَ عَنْ شِدَّةِ الجَهْرِ بِالقِراءَةِ وشِدَّةِ المَخافَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. فَعَلى هَذا في تَسْمِيَةِ القِراءَةِ بِالصَّلاةِ قَوْلانِ ذَكَرَهُما ابْنُ الأنْبارِيِّ؛ أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المَعْنى: فَلا تَجْهَرْ بِقِراءَةِ صَلاتِكَ. والثّانِي: أنَّ القِراءَةَ بَعْضُ الصَّلاةِ، فَنابَتْ عَنْها، كَما قِيلَ لِعِيسى: كَلِمَةُ اللَّهِ؛ لِأنَّهُ بِالكَلِمَةِ كانَ. والثّانِي: لا تُصَلِّ مُراءاةً لِلنّاسِ، ولا تَدَعْها مَخافَةَ النّاسِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا. والثّالِثُ: لا تَجْهَرْ بِالتَّشَهُّدِ في صَلاتِكَ، رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ في رِوايَةٍ، وبِهِ قالَ ابْنُ سِيرِينِ. والرّابِعُ: لا تَجْهَرْ بِفِعْلِ صَلاتِكَ ظاهِرًا، ولا تُخافِتْ بِها شَدِيدَ الِاسْتِتارِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ. والخامِسُ: لا تُحْسِنْ عَلانِيَتَها وتُسِئْ سَرِيرَتَها، قالَهُ الحَسَنُ. والسّادِسُ: لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ كُلِّها ولا تُخافِتْ بِجَمِيعِها، فاجْهَرْ في صَلاةِ اللَّيْلِ وخافِتْ في صَلاةِ النَّهارِ عَلى ما أمَرْناكَ بِهِ، ذَكَرَهُ القاضِي أبُو يَعْلى. (p-١٠١) والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالصَّلاةِ: الدُّعاءُ، وهو قَوْلُ عائِشَةَ، وأبِي هُرَيْرَةَ، ومُجاهِدٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تُخافِتْ بِها﴾ المُخافَتَةُ: الإخْفاءُ، يُقالُ: صَوْتٌ خَفِيتٌ. ﴿وابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا﴾؛ أيِ: اسْلُكْ بَيْنَ الجَهْرِ والمُخافَتَةِ طَرِيقًا. وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: نُسِخَتْ هَذِهِ الآَيَةُ بِقَوْلِهِ: ﴿واذْكُرْ رَبَّكَ في نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وخِيفَةً ودُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ﴾ [ الأعْرافِ: ٢٠٥ ] . وقالَ ابْنُ السّائِبِ: نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: ﴿فاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ﴾ [ الحِجْرِ: ٩٤ ] . وعَلى التَّحْقِيقِ وُجُودُ النَّسْخِ هاهُنا بَعِيدٌ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ﴾ وقَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو الجَوْزاءِ، وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: ( في المِلْكِ ) بِكَسْرِ المِيمِ. ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ولِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: لَمْ يُحالِفْ أحَدًا ولَمْ يَبْتَغِ نَصْرَ أحَدٍ، والمَعْنى: أنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى مُوالاةِ أحَدٍ لِذُلٍّ يَلْحَقُهُ، فَهو مُسْتَغْنٍ عَنِ الوَلِيِّ والنَّصِيرِ. ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾؛ أيْ: عَظِّمْهُ تَعْظِيمًا تامًّا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب