الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ المَثانِي﴾ سَبَبُ نُزُولِها أنَّ سَبْعَ قَوافِلَ وافَتْ مَن بُصْرى وأذْرِعاتٍ لِيَهُودِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ في يَوْمٍ واحِدٍ، فِيها أنْواعٌ مِنَ البَزِّ والطِّيبِ والجَواهِرِ، فَقالَ المُسْلِمُونَ: لَوْ كانَتْ هَذِهِ الأمْوالُ لَنا لَتَقَوَّيْنا بِها وأنْفَقْناها في سَبِيلِ اللَّهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ، وقالَ: أعْطَيْتُكم سَبْعَ آياتٍ هي خَيْرٌ لَكم مِن هَذِهِ السَّبْعِ القَوافِلِ، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا قَوْلُهُ: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ. . .﴾ الآيَةُ، قالَهُ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ. (p-٤١٣)وَفِي المُرادِ بِالسَّبْعِ المَثانِي أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها فاتِحَةُ الكِتابِ، قالَهُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ في رِوايَةٍ، وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ الأكْثَرِينَ عَنْهُ، وأبُو هُرَيْرَةَ، والحَسَنُ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ في رِوايَةٍ، ومُجاهِدٌ في رِوايَةٍ، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ في آخَرِينَ. فَعَلى هَذا، إنَّما سُمِّيَتْ بِالسَّبْعِ، لِأنَّها سَبْعُ آياتٍ. وَفِي تَسْمِيَتِها بِالمَثانِي سَبْعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: لِأنَّ اللَّهَ اسْتَثْناها لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَلَمْ يُعْطِها أُمَّةً قَبْلَهم، رَواهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: لِأنَّها تُثَنّى في كُلِّ رَكْعَةٍ، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: والمَعْنى: آتَيْناكَ السَّبْعَ الآياتِ الَّتِي تُثَنّى في كُلِّ رَكْعَةٍ، وإنَّما دَخَلَتْ " مِن " لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَلَهم فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ [مُحَمَّدٍ:١٥] . وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: سُمِّيَ " الحَمْدُ " مَثانِيَ، لِأنَّها تُثَنّى في كُلِّ صَلاةٍ. والثّالِثُ: لِأنَّها ما أُثْنِيَ بِهِ عَلى اللَّهِ تَعالى، لِأنَّ فِيها حَمْدَ اللَّهِ وتَوْحِيدَهُ وذِكْرَ مَمْلَكَتِهِ، ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ. والرّابِعُ: لِأنَّ فِيها " الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ " مَرَّتَيْنِ، ذَكَرَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ بَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ، وهَذا عَلى قَوْلِ مَن يَرى التَّسْمِيَةَ مِنها. والخامِسُ: لِأنَّها مَقْسُومَةٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى وبَيْنَ عَبْدِهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ " «قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي» " . والسّادِسُ: (p-٤١٤)لِأنَّها نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ، ذَكَرَهُ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ. والسّابِعُ: لِأنَّ كَلِماتِها مُثَنّاةٌ، مِثْلُ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إيّاكَ إيّاكَ، الصِّراطَ صِراطَ، عَلَيْهِمْ عَلَيْهِمْ، غَيْرِ غَيْرِ، ذَكَرَهُ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ. ومِن أعْظَمِ فَضائِلِها أنَّ اللَّهَ تَعالى جَعَلَها في حَيِّزٍ، والقُرْآنَ كُلَّهُ في حَيِّزٍ، وامْتَنَّ عَلَيْهِ بِها كَما امْتَنَّ عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ كُلِّهِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّها السَّبْعُ الطُّوَلُ، قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ في رِوايَةٍ، وابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ في رِوايَةٍ، ومُجاهِدٌ في رِوايَةٍ، والضَّحّاكُ. فالسَّبْعُ الطُّوَلُ هي: (البَقَرَةُ)، و (آلُ عِمْرانَ)، و (النِّساءُ)، و (المائِدَةُ)، و (الأنْعامُ)، و (الأعْرافُ)، وفي السّابِعَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها (يُونُسُ) قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. والثّانِي: (بَراءَةٌ) قالَهُ أبُو مالِكٍ. والثّالِثُ: (الأنْفالُ) و (بَراءَةٌ) جَمِيعًا، رَواهُ سُفْيانُ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ بَعْضِ أهْلِ العِلْمِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وكانُوا يَرَوْنَ (الأنْفالَ) و (بَراءَةً) سُورَةً واحِدَةً، ولِذَلِكَ لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَهُما، قالَ شَيْخُنا أبُو مَنصُورٍ اللُّغَوِيُّ: هي الطُّوَلُ، ولا تَقُلْها بِالكَسْرِ، فَعَلى هَذا، في تَسْمِيَتِها بِالمَثانِي قَوْلانِ: أحَدُهُما لِأنَّ الحُدُودَ والفَرائِضَ والأمْثالَ ثُنِّيَتْ فِيها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: لِأنَّها تُجاوِزُ المِائَةَ الأُولى إلى المِائَةِ الثّانِيَةِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ. والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ السَّبْعَ المَثانِيَ سَبْعُ مَعانٍ أُنْزِلَتْ في القُرْآنِ: أمْرٌ، ونَهْيٌ، وبِشارَةٌ، وإنْذارٌ، وضَرْبُ الأمْثالِ، وتَعْدادُ النِّعَمِ، وأخْبارُ الأُمَمِ، قالَهُ زِيادُ بْنُ أبِي مَرْيَمَ. والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ المَثانِيَ: القُرْآنُ كُلُّهُ، قالَهُ طاوُوسُ، والضَّحّاكُ، وأبُو مالِكٍ، فَعَلى هَذا، في تَسْمِيَةِ القُرْآنِ بِالمَثانِي أرْبَعَةُ أقْوالٍ: (p-٤١٥)أحَدُها: لِأنَّ بَعْضَ الآياتِ يَتْلُو بَعْضًا، فَتُثَنّى الآخِرَةُ عَلى الأُولى، ولَها مَقاطِعُ تَفْصِلُ الآيَةَ بَعْدَ الآيَةِ حَتّى تَنْقَضِيَ السُّورَةُ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ. والثّانِي: أنَّهُ سُمِّيَ بِالمَثانِي لِما يَتَرَدَّدُ فِيهِ مِنَ الثَّناءِ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. والثّالِثُ: لِما يَتَرَدَّدُ فِيهِ مِن ذِكْرِ الجَنَّةِ، والنّارِ، والثَّوابِ، والعِقابِ. والرّابِعُ: لِأنَّ الأقاصِيصَ، والأخْبارَ، والمَواعِظَ، والآدابَ، ثُنِّيَتْ فِيهِ، ذَكَرَهُنَّ ابْنُ الأنْبارِيِّ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَدْ يَكُونُ المَثانِي سُوَرَ القُرْآنِ كُلِّهِ، قِصارَها وطُوالَها، وإنَّما سُمِّيَ مَثانِيَ، لِأنَّ الأنْباءَ والقَصَصَ تُثَنّى فِيهِ، فَعَلى هَذا القَوْلِ، المُرادُ بِالسَّبْعِ: سَبْعَةُ أسْباعِ القُرْآنِ، ويَكُونُ في الكَلامِ إضْمارٌ، تَقْدِيرُهُ: وهي القُرْآنُ العَظِيمُ. فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿مِنَ المَثانِي﴾ فَفي " مِن " قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها لِلتَّبْعِيضِ، فَيَكُونُ المَعْنى: آتَيْناكَ سَبْعًا مِن جُمْلَةِ الآياتِ الَّتِي يُثْنى بِها عَلى اللَّهِ تَعالى، وآتَيْناكَ القُرْآنَ. والثّانِي: أنَّها لِلصِّفَةِ، فَيَكُونُ السَّبْعُ هي المَثانِي، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ﴾ [الحَجِّ:٣٠] لا أنَّ بَعْضَها رِجْسٌ، ذَكَرَ الوَجْهَيْنِ الزَّجّاجُ، وقَدْ ذَكَرْنا عَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ قَرِيبًا مِن هَذا المَعْنى. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والقُرْآنَ العَظِيمَ﴾ يَعْنِي: العَظِيمَ القَدْرِ، لِأنَّهُ كَلامُ اللَّهِ تَعالى، ووَحْيُهُ. وَفِي المُرادِ بِهِ هاهُنا قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ جَمِيعُ القُرْآنِ. قالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والضَّحّاكُ. والثّانِي: أنَّهُ الفاتِحَةُ، أيْضًا، قالَهُ أبُو هُرَيْرَةَ، وقَدْ رَوَيْنا فِيهِ حَدِيثًا في أوَّلِ (p-٤١٦)تَفْسِيرِ (الفاتِحَةِ) . قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: فَعَلى القَوْلِ الأوَّلِ، يَكُونُ قَدْ نُسِقَ الكُلُّ عَلى البَعْضِ، كَما يَقُولُ العَرَبِيُّ: رَأيْتُ جِدارَ الدّارِ والدّارَ، وإنَّما يَصْلُحُ هَذا، لِأنَّ الزِّيادَةَ الَّتِي في الثّانِي مِن كَثْرَةِ العَدَدِ أشْبَهَ بِها ما يُغايِرُ الأوَّلَ، فَجَوَّزَ ذَلِكَ عَطْفَهُ عَلَيْهِ. وعَلى القَوْلِ الثّانِي، نُسِقَ الشَّيْءُ عَلى نَفْسِهِ لَمّا زِيدَ عَلَيْهِ مَعْنى المَدْحِ والثَّناءِ، كَما قالُوا: رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمْرَ، وابْنِ الخَطّابِ. يُرِيدُونَ بِابْنِ الخَطّابِ: الفاضِلَ العالِمَ الرَّفِيعَ المَنزِلَةِ، فَلَمّا دَخَلَتْهُ زِيادَةٌ، أشْبَهَ ما يُغايِرُ الأوَّلَ؛ فَعُطِفَ عَلَيْهِ. وَلَمّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى مِنَّتَهُ عَلَيْهِ بِالقُرْآنِ؛ نَهاهُ عَنِ النَّظَرِ إلى الدُّنْيا لِيَسْتَغْنِيَ بِما آتاهُ مِنَ القُرْآنِ عَنِ الدُّنْيا، فَقالَ: ﴿لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتَّعْنا بِهِ أزْواجًا مِنهُمْ﴾ أيْ: أصْنافًا مِنَ اليَهُودِ والمُشْرِكِينَ، والمَعْنى: أنَّهُ نَهاهُ عَنِ الرَّغْبَةِ في الدُّنْيا. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ إنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. والثّانِي: لا تَحْزَنُ بِما أنْعَمْتُ عَلَيْهِمْ في الدُّنْيا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: ألِنْ جانِبَكَ لَهم. وخَفْضُ الجَناحِ: عِبارَةٌ عَنِ السُّكُونِ وتَرْكِ التَّصَعُّبِ والإباءِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ارْفُقْ بِهِمْ ولا تَغْلُظْ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقُلْ إنِّي أنا النَّذِيرُ المُبِينُ﴾ حَرَّكَ ياءَ " إنِّيَ " ابْنُ كَثِيرٍ، وأبُو عَمْرٍو، ونافِعٌ. وذَكَرَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ أنَّ مَعْناها مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب