الباحث القرآني

(p-٣٧٣)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ في المُشارِ إلَيْهِمْ أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ نَمْرُودُ الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ في رَبِّهِ، قالَ: لا أنْتَهِي حَتّى أنْظُرَ إلى السَّماءِ، فَأمَرَ بِفَرْخَيْ نَسْرٍ فَرُبِّيا حَتّى سَمِنا واسْتَعْلَجا، ثُمَّ أمَرَ بِتابُوتٍ فَنُحِتَ، ثُمَّ جَعَلَ في وسَطِهِ خَشَبَةً، وجَعَلَ عَلى رَأْسِ الخَشَبَةِ لَحْمًا شَدِيدَ الحُمْرَةِ، ثُمَّ جَوَّعَهُما ورَبَطَ أرْجُلَهُما بِأوْتارٍ إلى قَوائِمِ التّابُوتِ. ودَخَلَ هو وصاحِبٌ لَهُ في التّابُوتِ وأغْلَقَ بابَهُ، ثُمَّ أرْسَلَهُما، فَجَعَلا يُرِيدانِ اللَّحْمَ، فَصَعِدا في السَّماءِ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ لِصاحِبِهِ: افْتَحْ وانْظُرْ ماذا تَرى ؟ فَفَتَحَ، فَقالَ: أرى الأرْضَ كَأنَّها الدُّخانُ، فَقالَ لَهُ: أغْلِقْ، ثُمَّ صَعِدَ ما شاءَ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: افْتَحْ فانْظُرْ، فَفَتَحَ، فَقالَ: ما أرى إلّا السَّماءَ، وما نَزْدادُ مِنها إلّا بُعْدًا، قالَ: فَصَوِّبْ خَشَبَتَكَ، فَصَوَّبَها، فانْقَضَّتِ النُّسُورُ تُرِيدُ اللَّحْمَ، فَسَمِعَتِ الجِبالُ هَدَّتَها، فَكادَتْ تَزُولُ عَنْ مَراتِبِها. هَذا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ. وفي رِوايَةِ عَنْهُ: كانَتِ النُّسُورُ أرْبَعَةً. ورَوى السُّدِّيُّ عَنْ أشْياخِهِ: أنَّهُ مازالَ يَصْعَدُ إلى أنْ رَأى الأرْضَ يُحِيطُ بِها بَحْرٌ، فَكَأنَّها فَلْكَةٌ في ماءٍ، ثُمَّ صَعِدَ حَتّى وقَعَ في ظُلْمَةٍ، فَلَمْ يَرَ ما فَوْقَهُ ولَمْ يَرَ ما تَحْتَهُ، فَفَزِعَ، فَصَوَّبَ اللَّحْمَ، فانْقَضَّتِ النُّسُورُ، فَلَمّا نَزَلَ أخَذَ في بِناءِ الصَّرْحِ. ثُمَّ صَعِدَ مِنهُ مَعَ النُّسُورِ، فَلَمّا لَمْ يَقْدِرْ عَلى السَّماءِ، اتَّخَذَهُ حِصْنًا، فَأتى اللَّهُ بُنْيانَهُ مِنَ القَواعِدِ. وقالَ عِكْرِمَةُ: كانَ مَعَهُ في التّابُوتِ غُلامٌ قَدْ حَمَلَ القَوْسَ والنُّشّابَ، فَرَمى بِسَهْمٍ فَعادَ إلَيْهِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، فَقالَ: كُفِيتَ إلَهَ السَّماءِ، وذَلِكَ مِن دَمِ سَمَكَةٍ في بَحْرٍ مُعَلَّقٍ في الهَواءِ، فَلَمّا هالَهُ الِارْتِفاعُ، (p-٣٧٤)قالَ لِصاحِبِهِ: صَوِّبِ الخَشَبَةَ، فَصَوَّبَها، فانْحَطَّتِ النُّسُورُ، فَظَنَّتِ الجِبالُ أنَّهُ أمْرٌ نَزَلَ مِنَ السَّماءِ فَزالَتْ عَنْ مَواضِعِها. وقالَ غَيْرُهُ: لَمّا رَأتِ الجِبالُ ذَلِكَ، ظَنَّتْ أنَّهُ قِيامُ السّاعَةِ، فَكادَتْ تَزُولُ، وإلى هَذا المَعْنى ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وأبُو مالِكٍ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّهُ بُخْتَنَصَّرُ، وأنَّ هَذِهِ القِصَّةَ لَهُ جَرَتْ، وأنَّ النُّسُورَ لَمّا ارْتَفَعَتْ تَطْلُبُ اللَّحْمَ إلى حَيْثُ شاءَ اللَّهُ، نُودِيَ: يا أيُّها الطّاغِيَةُ، أيْنَ تُرِيدُ ؟ فَفَرِقَ، ثُمَّ سَمِعَ الصَّوْتَ فَوْقَهُ، فَنَزَلَ، فَلَمّا رَأتِ الجِبالُ ذَلِكَ، ظَنَّتْ أنَّهُ قِيامُ السّاعَةِ فَكادَتْ تَزُولُ، وهَذا قَوْلُ مُجاهِدٍ. والثّالِثُ: أنَّ المُشارَ إلَيْهِمُ الأُمَمُ المُتَقَدِّمَةُ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ: مَكْرُهم: شِرْكُهم. والرّابِعُ: أنَّهُمُ الَّذِينَ مَكَرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ وإخْراجِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مَحْفُوظٌ عِنْدَهُ حَتّى يُجازِيَهم بِهِ، قالَهُ الحَسَنُ، وقَتادَةُ. والثّانِي: وعِنْدَ اللَّهِ جَزاءُ مَكْرِهِمْ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ﴾ وقَرَأ أبُو بَكْرٍ، وعُمَرُ، وعَلِيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وأُبَيٌّ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وأبُو العالِيَةِ: " وإنْ كادَ مَكْرُهم " بِالدّالِ. ﴿لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ . وقَرَأ الأكْثَرُونَ " لِتَزُولَ " بِكَسْرِ اللّامِ الأُولى مِن " لِتَزُولَ " وفَتْحِ الثّانِيَةِ. أرادَ: وما كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ، أيْ: هو أضْعَفُ وأوْهَنُ، كَذَلِكَ فَسَّرَها الحَسَنُ البَصَرِيُّ. وقَرَأ الكِسائِيُّ " لَتَزُولُ " بِفَتْحِ اللّامِ الأُولى وضَمِّ الثّانِيَةِ، أرادَ: قَدْ كادَتِ الجِبالُ تَزُولُ مِن مَكْرِهِمْ، كَذَلِكَ فَسَّرَها ابْنُ الأنْبارِيِّ. وَفِي المُرادِ بِالجِبالِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها الجِبالُ المَعْرُوفَةُ، قالَهُ الجُمْهُورُ. والثّانِي: أنَّها ضُرِبَتْ مَثَلًا لِأمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، وثُبُوتُ دِينِهِ كَثُبُوتِ الجِبالِ (p-٣٧٥)الرّاسِيَةِ، والمَعْنى: لَوْ بَلَغَ كَيْدُهم إلى إزالَةِ الجِبالِ، لَما زالَ أمْرُ الإسْلامِ، قالَهُ الزَّجّاجُ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا قَوْلُهُ: ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ أيْ: فَقَدْ وعَدَكَ الظُّهُورَ عَلَيْهِمْ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ بِوَعْدِهِ: النَّصْرَ والفَتْحَ وإظْهارَ الدِّينِ. ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ أيْ: مَنِيعٌ ﴿ذُو انْتِقامٍ﴾ مِنَ الكافِرِينَ، وهو أنْ يُجازِيَهم بِالعُقُوبَةِ عَلى كُفْرِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب