الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلَمّا سَمِعَتْ﴾ يَعْنِي: امْرَأةَ العَزِيزِ، ﴿بِمَكْرِهِنَّ﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ قَوْلُهُنَّ وعَيْبُهُنَّ لَها، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ قُتَيْبَةَ. قالَ الزَّجّاجُ: وإنَّما سُمِّيَ هَذا القَوْلُ مَكْرًا، لِأنَّها كانَتْ أطْلَعَتْهُنَّ عَلى أمْرِها، واسْتَكْتَمَتْهُنَّ، فَمَكَرْنَ وأفْشَيْنَ سِرَّها. والثّانِي: أنَّهُ مَكُرُ حَقِيقَةٍ، وإنَّما قُلْنَ ذَلِكَ مَكْرًا بِها لِتُرِيَهُنَّ يُوسُفَ، قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأعْتَدَتْ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: أفْعَلَتْ مِنَ العَتادِ، وكُلُّ ما اتَّخَذْتَهُ عُدَّةً لِشَيْءٍ فَهو عَتادٌ، والعَتادُ: الشَّيْءُ الثّابِتُ اللّازِمُ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أعْتَدَتْ بِمَعْنى أعَدَّتْ. فَأمّا المُتَّكَأُ، فَفِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: (p-٢١٦)أحَدُها: أنَّهُ المَجْلِسُ؛ فالمَعْنى: هَيَّأتْ لَهُنَّ مَجْلِسًا، قالَهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّهُ الوَسائِدُ اللّائِي يَتَّكِئْنَ عَلَيْها، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ الزَّجّاجُ: المُتَّكَأُ: ما يُتَّكَأُ عَلَيْهِ لِطَعامٍ أوْ شَرابٍ أوْ حَدِيثٍ. والثّالِثُ: أنَّهُ الطَّعامُ، قالَهُ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقالُ: اتَّكَأْنا عِنْدَ فُلانٍ: إذا طَعِمْنا، قالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ: ؎ فَظَلِلْنا في نَعْمَةٍ واتَّكَأْنا وشَرِبْنا الحَلالَ مِن قُلَلِهِ والأصْلُ في هَذا أنَّ مَن دَعَوْتَهُ لِيَطْعَمَ، أعْدَدْتَ لَهُ التُّكَأةَ لِلْمُقامِ والطُّمَأْنِينَةِ، فَسُمِّيَ الطَّعامُ مُتَّكَأً عَلى الِاسْتِعارَةِ. قالَ الأزْهَرِيُّ: إنَّما قِيلَ لِلطَّعامِ: مُتَّكَأٌ، لِأنَّ القَوْمَ إذا قَعَدُوا عَلى الطَّعامِ اتَّكَؤُوا، ونُهِيَتْ هَذِهِ الأُمَّةُ عَنْ ذَلِكَ. وقَرَأ مُجاهِدٌ " مُتْكًا " بِإسْكانِ التّاءِ خَفِيفَةً، وفِيهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ الأُتْرُجُّ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، ويَحْيى بْنُ يَعْمَرَ في آخَرِينَ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ نَشْرَبُ الإثْمَ بِالصُّواعِ جِهارا ∗∗∗ وتَرى المُتْكَ بَيْنَنا مُسْتَعارا يُرِيدُ: الأُتْرُجَّ. والثّانِي: أنَّهُ الطَّعامُ أيْضًا، قالَهُ عِكْرِمَةُ. الثّالِثُ: أنَّهُ كُلُّ شَيْءٍ يُحَزُّ بِالسَّكاكِينِ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والرّابِعُ: أنَّهُ الزُّماوَرْدُ، رُوِيَ عَنْ الضَّحّاكِ أيْضًا. وقَدْ (p-٢١٧)رُوِيَ عَنْ جَماعَةٍ أنَّهم فَسَّرُوا المُتَّكَأ بِما فَسَّرُوا بِهِ المُتْكَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أنَّهُ قالَ: المُتَّكَأُ الأُتْرُجُّ، وكُلُّ ما يُحَزُّ بِالسَّكاكِينِ. وعَنِ الضَّحّاكِ قالَ: المُتَّكَأُ: كُلُّ ما يُحَزُّ بِالسَّكاكِينِ. وفَرَّقَ آخَرُونَ بَيْنَ القِراءَتَيْنِ، فَقالَ مُجاهِدٌ: مَن قَرَأ " مُتَّكَأً " بِالتَّثْقِيلِ، فَهو الطَّعامُ، ومَن قَرَأ بِالتَّخْفِيفِ، فَهو الأُتْرُجُّ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: مَن قَرَأ " مُتْكًا " فَإنَّهُ يُرِيدُ الأُتْرُجَّ، ويُقالُ: الزُّماوَرْدُ. وأيًّا ما كانَ، فَإنِّي لا أحْسَبُهُ سُمِّي مُتْكًا إلّا بِالقَطْعِ، كَأنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ البَتْكِ، فَأُبْدِلَتِ المِيمُ مِنهُ باءً، كَما يُقالُ: سَمَدَ رَأْسَهُ وسَبَدَهُ: إذا اسْتَأْصَلَهُ، وشَرٌّ لازِمٌ، ولازِبٌ، والمِيمُ تُبْدَلُ مِنَ الباءِ كَثِيرًا، لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِما. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ سِكِّينًا﴾ إنَّما فَعَلَتْ ذَلِكَ، لِأنَّ الطَّعامَ الَّذِي قَدَّمَتْ لَهُنَّ يَحْتاجُ إلى السَّكاكِينِ. وقِيلَ: كانَ مَقْصُودُها افْتِضاحَهُنَّ بِتَقْطِيعِ أيْدِيهِنَّ كَما فَضَحْنَها. قالَ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ناوَلَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ أُتْرُجَّةً وسِكِّينًا، وقالَتْ لَهُنَّ: لا تَقْطَعْنَ ولا تَأْكُلْنَ حَتّى أُعْلِمَكُنَّ، ثُمَّ قالَتْ لِيُوسُفَ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ. قالَ الزَّجّاجُ: إنْ شِئْتَ ضَمَمْتَ التّاءَ مِن قَوْلِهِ: " وقالَتْ "، وإنْ شِئْتَ كَسَرْتَ، والكَسْرُ الأصْلُ لِسُكُونِ التّاءِ والخاءِ، ومَن ضَمَّ التّاءَ، فَلِثِقَلِ الضَّمَّةِ بَعْدَ الكَسْرَةِ. ولَمْ يُمْكِنْهُ أنْ لا يَخْرُجَ لِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ العَبْدِ لَها. وذَكَرَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ أنَّها إنَّما قالَتِ: " اخْرُجْ " وأضْمَرَتْ في نَفْسِها " عَلَيْهِنَّ "، فَأخْبَرَ الحَقُّ عَمّا في النَّفْسِ كَأنَّ اللِّسانَ قَدْ نَطَقَ بِهِ، ومِثْلُهُ ﴿إنَّما نُطْعِمُكم لِوَجْهِ اللَّهِ. . .﴾ الآيَةُ [الإنْسانِ:٩]، لَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ، إنَّما أضْمَرُوهُ، ويَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا أنَّها لَوْ قالَتْ لَهُ وهو شابٌّ مُسْتَحْسَنٌ: اخْرُجْ عَلى نِسْوَةٍ مِن طَبْعِهِنَّ الفِتْنَةُ، ما فَعَلَ. وَفِي قَوْلِهِ: " أكْبَرْنَهُ " قَوْلانِ: (p-٢١٨)أحَدُهُما: أعْظَمْنَهُ، رَواهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وابْنُ أبِي نُجَيْحٍ عَنْ مُجاهِدٍ، وبِهِ قالَ قَتادَةُ، وابْنُ زَيْدٍ. والثّانِي: حِضْنَ، رَواهُ الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ورَوى عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبّاسٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: حِضْنَ مِنَ الفَرَحِ، قالَ: وفي ذَلِكَ يَقُولُ الشّاعِرُ: ؎ نَأْتِي النِّساءَ لَدى أطْهارِهِنَّ ولا ∗∗∗ نَأْتِي النِّساءَ إذا أكْبَرْنَ إكْبارا وَقَدْ رَوى هَذا المَعْنى لَيْثٌ عَنْ مُجاهِدٍ، واخْتارَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ، ورَدَّهُ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ، فَرُوِيَ عَنْ أبِي عُبَيْدَةَ أنَّهُ قالَ: لَيْسَ في كَلامِ العَرَبِ " أكْبَرْنَ " بِمَعْنى " حِضْنَ "، ولَكِنْ عَسى أنْ يَكُنَّ مِن شِدَّةِ ما أعْظَمْنَهُ حِضْنَ، وكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ الزَّجّاجِ أنَّهُ أنْكَرَهُ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: حَزَزْنَ أيْدِيَهُنَّ، وكُنَّ يَحْسَبْنَ أنَّهُنَّ يُقَطِّعْنَ طَعامًا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وابْنُ زَيْدٍ. والثّانِي: قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ حَتّى ألْقَيْنَها، قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. والثّالِثُ: كَلَمْنَ الأكُفَّ وأبَنَّ الأنامِلَ، قالَهُ وهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو " حاشا " بِألْفٍ في الوَصْلِ في المَوْضِعَيْنِ، واتَّفَقُوا عَلى حَذْفِ الألِفِ في الوَقْفِ، وأبُو عَمْرٍو جاءَ بِهِ عَلى التَّمامِ والأصْلِ، والباقُونَ حَذَفُوا. وهَذِهِ الكَلِمَةُ تُسْتَعْمَلُ في مَوْضِعَيْنِ: أحَدُهُما: الِاسْتِثْناءُ، والثّانِي: التَّبْرِئَةُ مِنَ الشَّرِّ. والأصْلُ " حاشا " وهي مُشْتَقَّةٌ مِن قَوْلِكَ: كُنْتُ في حَشا فُلانٍ، أيْ: في ناحِيَتِهِ. والحَشا: النّاحِيَةُ، وأنْشَدُوا: بِأيِّ الحَشا أمْسى الخَلِيطُ المُبايِنُ (p-٢١٩)أيْ: بِأيِّ النَّواحِي، والمَعْنى: صارَ يُوسُفُ في حَشًا مِن أنْ يَكُونَ بَشَرًا، لِفَرْطِ جَمالِهِ. وقِيلَ: صارَ في حَشًا مِمّا قَرَفَتْهُ بِهِ امْرَأةُ العَزِيزِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ: ﴿حاشَ لِلَّهِ﴾ بِمَعْنى: مَعاذَ اللَّهِ. قالَ الفَرّاءُ: و " بَشَرًا " مَنصُوبٌ، لِأنَّ الباءَ قَدْ اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ، فَلا يَكادُ أهْلُ الحِجازِ يَنْطِقُونَ إلّا بِالباءِ، فَلَمّا حَذَفُوها أحَبُّوا أنْ يَكُونَ لَها أثَرٌ فِيما خَرَجَتْ مِنهُ، فَنَصَبُوا عَلى ذَلِكَ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ﴾ [المُجادَلَةِ:٢]، وأمّا أهْلُ نَجْدٍ فَيَتَكَلَّمُونَ بِالباءِ وبِغَيْرِ الباءِ، فَإذا أسْقَطُوها، رَفَعُوا، وهو أقْوى الوَجْهَيْنِ في العَرَبِيَّةِ. قالَ الزَّجّاجُ: قَوْلُهُ: الرَّفْعُ أقْوى الوَجِهَيْنِ، غَلَطٌ، لِأنَّ كِتابَ اللَّهِ أقْوى اللُّغاتِ، ولَمْ يَقْرَأْ بِالرَّفْعِ أحَدٌ، وزَعَمَ الخَلِيلُ، وسِيبَوَيْهِ، وجَمِيعُ النَّحْوِيِّينَ القُدَماءِ أنَّ " بَشَرًا " مَنصُوبٌ، لِأنَّهُ خَبَرُ " ما " و " ما " بِمَنزِلَةِ " لَيْسَ " . قُلْتُ: وقَدْ قَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو نُهَيْكٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُعاذٌ القارِئُ في آخَرِينَ: " ما هَذا بَشَرٌ " بِالرَّفْعِ. وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وأبُو الجَوْزاءِ، وأبُو السَّوّارِ: " ما هَذا بِشِرًى " بِكَسْرِ الباءِ والشِّينِ مَقْصُورًا مُنَوَّنًا. قالَ الفَرّاءُ: أيْ: ما هَذا بِمُشْتَرًى. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: " بِشِراءٍ " بِالمَدِّ والهَمْزِ مَخْفُوضًا مُنَوَّنًا. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ هَذا إلا مَلَكٌ﴾ قَرَأ أُبَيٌّ، وأبُو رَزِينٍ، وعِكْرِمَةُ، وأبُو حَيْوَةَ، والجَحْدَرِيُّ: " مَلِكٌ " بِكَسْرِ اللّامِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ قالَ المُفَسِّرُونَ: لَمّا ذَهَبَتْ عُقُولُهُنَّ فَقَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ، قالَتْ لَهُنَّ ذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: " كَيْفَ أشارَتْ إلَيْهِ وهو حاضِرٌ بِقَوْلِها: " فَذَلِكُنَّ " ؟ فَعَنْهُ جَوابانِ ذَكَرَهُما ابْنُ الأنْبارِيِّ: أحَدُهُما: أنَّها أشارَتْ بِـ " ذَلِكُنَّ " إلى يُوسُفَ بَعْدَ انْصِرافِهِ مِنَ المَجْلِسِ. والثّانِي: أنَّ في الكَلامِ إضْمارَ " هَذا " تَقْدِيرُهُ: فَهَذا ذَلِكُنَّ. ومَعْنى (p-٢٢٠)﴿لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ أيْ: في حُبِّهِ. ثُمَّ أقَرَّتْ عِنْدَهُنَّ، فَقالَتْ: ﴿وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فاسْتَعْصَمَ﴾ أيِ: امْتَنَعَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلَيَكُونًا مِنَ الصّاغِرِينَ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: القِراءَةُ الجَيِّدَةُ تَخْفِيف " ولَيَكُونَنْ " والوُقُوفُ عَلَيْها بِالألِفِ، لِأنَّ النُّونَ الخَفِيفَةَ تُبْدَلُ مِنها في الوَقْفِ الألِفُ، تَقُولُ: اضْرِبَنْ زَيْدًا، وإذا وقَفْتَ قُلْتَ: اضْرِبا. وقَدْ قُرِئَتْ " ولَيَكُونَنَّ " بِتَشْدِيدِ النُّونِ، وأكْرَهُها، لِخِلافِ المُصْحَفِ، لِأنَّ الشَّدِيدَةَ لا يُبَدَلُ مِنها شَيْءٌ. والصّاغِرُونَ: المُذَلُّونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب