الباحث القرآني
(p-٢٥٨)سُورَةُ تَبَّتْ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِإجْماعِهِمْ
وَسَبَبُ نُزُولِها ما رَوى البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ في " الصَّحِيحَيْنِ " مِن حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «لَمّا نَزَلَ ﴿وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ [الشُّعَراءِ: ٢١٤] صَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلى الصَّفا فَقالَ: " يا صَباحاهُ " . فاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقالُوا: ما لَكَ؟ فَقالَ: أرَأيْتَكم إنْ أخْبَرْتُكم أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ، أوْ مُمَسِّيكُمْ، أما كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟، قالُوا: بَلى. قالَ: " فَإنِّي نَذِيرٌ لَكم بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ " .
قالَ أبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، ألِهَذا دَعَوْتَنا؟ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾» (p-٢٥٩)وَمَعْنى: تَبَّتْ: خَسِرَتْ يَدا أبِي لَهَبٍ ﴿وَتَبَّ﴾ أيْ: وخَسِرَ هو. قالَ الفَرّاءُ: الأوَّلُ: دُعاءٌ، والثّانِي: خَبَرٌ، كَما يَقُولُ الرَّجُلُ: أهْلَكَكَ اللَّهُ وقَدْ أهْلَكَكَ، وجَعَلَكَ اللَّهُ صالِحًا وقَدْ جَعَلَكَ. وقِيلَ: ذَكَرَ يَدَيْهِ، والمُرادُ نَفْسُهُ، ولَكِنْ هَذا عادَةُ العَرَبِ يُعَبِّرُونَ بِبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ جَمِيعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ﴾ [الحَجِّ: ١٠] . وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ ولَدُ أبِي لَهَبٍ. فَأمّا أبُو لَهَبٍ فَهو عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقِيلَ: إنَّ اسْمَهُ عَبْدُ العُزّى. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحْدَهُ " أبِي لَهْبٍ " بِإسْكانِ الهاءِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: يُشْبِهُ أنْ يَكُونَ لُغَةً كالشَّمْعِ، والشَّمَعِ والنَّهْرِ، والنَّهَرِ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ كَنّاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، وفي الكُنْيَةِ نَوْعُ تَعْظِيمٍ؟
فَعَنْهُ جَوابانِ.
أحَدُهُما: أنَّهُ إنْ صَحَّ أنَّ اسْمَهُ عَبْدُ العُزّى، فَكَيْفَ يَذْكُرُهُ اللَّهُ بِهَذا الِاسْمِ وفِيهِ مَعْنى الشِّرْكِ؟!
والثّانِي: أنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ اشْتَهَرُوا بِكُناهُمْ، ولَمْ يُعْرَفْ لَهم أسْماءٌ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: خَبَّرَنِي غَيْرُ واحِدٍ عَنِ الأصْمَعِيِّ أنَّ أبا عَمْرِو بْنَ العَلاءِ، وأبا سُفْيانَ (p-٢٦٠)ابْنَ العَلاءِ أسْماؤُهُما كُناهُما، فَإنْ كانَ اسْمُ أبِي لَهَبٍ كُنْيَتُهُ، فَإنَّما ذَكَرَهُ بِما لا يُعْرَفُ إلّا بِهِ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما أغْنى عَنْهُ مالُهُ﴾ قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: «لَمّا دَعا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أقْرَبِيهِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ قالَ أبُو لَهَبٍ: إنْ كانَ ما يَقُولُ ابْنُ أخِي حَقًّا، فَإنِّي أفْتَدِي بِمالِي، ووَلَدِي، فَقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ما أغْنى عَنْهُ مالُهُ وما كَسَبَ﴾» قالَ الزَّجّاجُ: و " ما " في مَوْضِعِ رَفْعٍ. المَعْنى: ما أغْنى عَنْهُ مالُهُ وكَسْبُهُ أيْ: ولَدُهُ. وكَذَلِكَ قالَ المُفَسِّرُونَ: المُرادُ بِكَسْبِهِ هاهُنا: ولَدُهُ. و ﴿أغْنى﴾ بِمَعْنى يُغْنِي ﴿سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ﴾ أيْ: تَلْتَهِبُ عَلَيْهِ مِن غَيْرِ دُخانٍ ﴿وامْرَأتُهُ﴾ أيْ: سَتَصْلى امْرَأتُهُ، وهي أمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبٍ أُخْتُ أبِي سُفْيانَ. وفي هَذا دَلالَةٌ عَلى صِحَّةِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لِأنَّهُ أخْبَرَ بِهَذا المَعْنى أنَّهُ وزَوْجَتَهُ يَمُوتانِ عَلى الكُفْرِ، فَكانَ كَذَلِكَ. إذْ لَوْ قالا بِألْسِنَتِهِما: قَدْ أسْلَمْنا، لَوَجَدَ الكُفّارُ مُتَعَلَّقًا في الرَّدِّ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، غَيْرَ أنَّ اللَّهَ عَلِمَ أنَّهُما لا يُسْلِمانِ باطِنًا ولا ظاهِرًا، فَأخْبَرَهُ بِذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿حَمّالَةَ الحَطَبِ﴾ فِيهِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّها كانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، (p-٢٦١)والفَرّاءُ. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: فَشَبَّهُوا النَّمِيمَةَ بِالحَطَبِ، والعَداوَةَ والشَّحْناءَ بِالنّارِ، لِأنَّهُما يَقَعانِ بِالنَّمِيمَةِ، كَما تَلْتَهِبُ النّارُ بِالحَطَبِ.
والثّانِي: أنَّها كانَتْ تَحْتَطِبُ الشَّوْكَ، فَتُلْقِيهِ في طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلًا، رَواهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وبِهِ قالَ الضَّحّاكُ، وابْنُ زَيْدٍ.
والثّالِثُ: أنَّ المُرادَ بِالحَطَبِ: الخَطايا، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
والرّابِعُ: أنَّها كانَتْ تُعَيِّرُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِالفَقْرِ، وكانَتْ تَحْتَطِبُ فَعُيِّرَتْ بِذَلِكَ، قالَهُ قَتادَةُ. ولَيْسَ بِالقَوِيِّ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى وصَفَهُ بِالمالِ.
وَقَرَأ عاصِمٌ وحْدَهُ " حَمّالَةَ الحَطَبِ " بِالنَّصْبِ.
قالَ الزَّجّاجُ: مَن نَصَبَ " حَمّالَةَ " فَعَلى الذَّمِّ. والمَعْنى: أعْنِي: حَمّالَةَ (p-٢٦٢)الحَطَبِ. والجِيدُ: العُنُقُ. والمَسَدُ في لُغَةِ العَرَبِ: الحَبْلُ إذا كانَ مِن لِيفِ المُقْلِ. وقَدْ يُقالُ لِما كانَ مِن أوْبارِ الإبِلِ مِنَ الحِبالِ: " المَسَدُ " قالَ الشّاعِرُ:
؎ ومَسَدٍ أُمِرَّ مِن أيانُقِ [صُهْبٍ عِتاقٍ ذاتِ مُخٍّ زاهِقِ]
وَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: المَسَدُ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ النّاسِ: اللِّيفُ دُونَ غَيْرِهِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ، إنَّما المَسَدُ: كُلُّ ما ضُفِرَ وفُتِلَ مِنَ اللِّيفِ وغَيْرِهِ.
واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في المُرادِ بِهَذا الحَبْلِ عَلى ثَلاثَةِ أقْوالٍ.
أحَدُها: أنَّها حِبالٌ كانَتْ تَكُونُ بِمَكَّةَ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقالَ الضَّحّاكُ: حَبَلٌ مِن شَجَرٍ كانَتْ تَحْتَطِبُ بِهِ.
والثّانِي: أنَّهُ قِلادَةٌ مَن ودَعٍ، قالَهُ قَتادَةُ.
والثّالِثُ: أنَّهُ سِلْسِلَةٌ مِن حَدِيدٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعًا، قالَهُ عُرْوَةُ بْنُ (p-٢٦٣)الزُّبَيْرِ. وقالَ غَيْرُهُ: المُرادُ بِهَذا الحَبْلِ: السِّلْسِلَةُ الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعالى في النّارِ، طُولُها سَبْعُونَ ذِراعًا. والمَعْنى: أنَّ تِلْكَ السِّلْسِلَةَ قَدْ فُتِلَتْ فَتْلًا مُحْكَمًا، [فَهِيَ] في عُنُقِها تُعَذَّبُ بِها في النّارِ.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["تَبَّتۡ یَدَاۤ أَبِی لَهَبࣲ وَتَبَّ","مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ","سَیَصۡلَىٰ نَارࣰا ذَاتَ لَهَبࣲ","وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ","فِی جِیدِهَا حَبۡلࣱ مِّن مَّسَدِۭ"],"ayah":"وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق