الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ﴾ أيْ: واعْمَلِ السَّفِينَةَ وَفِي قَوْلِهِ: ﴿بِأعْيُنِنا﴾ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: بِمَرْأًى مِنّا، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي بِحِفْظِنا، قالَهُ الرَّبِيعُ. والثّالِثُ: بِعِلْمِنا، قالَهُ مُقاتِلٌ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: إنَّما جَمَعَ عَلى مَذْهَبِ العَرَبِ في إيقاعِها الجَمْعَ عَلى الواحِدِ، تَقُولُ: خَرَجْنا إلى البَصْرَةِ في السُّفُنِ، وإنَّما جَمَعَ، لِأنَّ مِن عادَةِ المَلِكِ أنْ يَقُولَ: أمَرْنا ونَهَيْنا. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿وَوَحْيِنا﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: وأمْرِنا لَكَ أنْ تَصْنَعَها. والثّانِي: وبِتَعْلِيمِنا إيّاكَ كَيْفَ تَصْنَعُها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَلا تُخاطِبْنِي في الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: لا تَسْألْنِي الصَّفْحَ عَنْهم. والثّانِي: لا تُخاطِبْنِي في إمْهالِهِمْ. وإنَّما نُهِيَ عَنِ الخِطابِ في ذَلِكَ صِيانَةً لَهُ عَنْ سُؤالٍ لا يُجابُ فِيهِ. الإشارَةُ إلى كَيْفِيَّةِ عَمَلِ السَّفِينَةِ رَوى الضَّحّاكُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ نُوحٌ يُضْرَبُ ثُمَّ يُلَفُّ في لِبْدٍ فَيُلْقى في بَيْتِهِ، يُرَوْنَ أنَّهُ قَدْ ماتَ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَيَدْعُوهم. حَتّى إذا يَئِسَ مِن إيمانِ قَوْمِهِ، جاءَهُ رَجُلٌ ومَعَهُ ابْنُهُ وهو يَتَوَكَّأُ عَلى عَصًا، فَقالَ: يا بُنَيَّ انْظُرْ هَذا الشَّيْخَ لا يَغْرُرْكَ، قالَ: ياأبْتِ أمْكِنِّي مِنَ العَصا، فَأخَذَها فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً شَجَّهُ (p-١٠٢)مُوضِحَةً، وسالَتِ الدِّماءُ عَلى وجْهِهِ، فَقالَ: رَبِّ قَدْ تَرى ما يَفْعَلُ بِي عِبادُكَ، فَإنْ يَكُنْ لَكَ فِيهِمْ حاجَةٌ فاهْدِهِمْ، وإلّا فَصَبِّرْنِي إلى أنْ تَحْكُمَ، فَأوْحى اللَّهُ إلَيْهِ " أنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إلّا مَن قَدْ آمَنَ " إلى قَوْلِهِ: " واصْنَعِ الفُلْكَ "، قالَ: يارَبِّ، وما الفُلْكُ ؟ قالَ: بَيْتٌ مِن خَشَبٍ يَجْرِي عَلى وجْهِ الماءِ أُنَجِّي فِيهِ أهْلَ طاعَتِي، وأُغْرِقُ أهْلَ مَعْصِيَتِي، قالَ: يارَبِّ، وأيْنَ الماءُ ؟ قالَ: إنِّي عَلى ما أشاءُ قَدِيرٌ، قالَ: يارَبِّ، وأيْنَ الخَشَبُ ؟ قالَ: اغْرِسِ الشَّجَرَ، فَغَرَسَ السّاجَ عِشْرِينَ سَنَةً، وكَفَّ عَنْ دُعائِهِمْ، وكَفُّوا عَنْهُ، إلّا أنَّهم يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، فَلَمّا أدْرَكَ الشَّجَرُ، أمَرَهُ رَبُّهُ، فَقَطَعَهُ وجَفَّفَهُ ولَفَّقَهُ، فَقالَ: يارَبِّ، كَيْفَ أتَّخِذُ هَذا البَيْتَ ؟ قالَ: اجْعَلْهُ عَلى ثَلاثِ صُوَرٍ، رَأْسُهُ كَرَأْسِ الطّاوُوسِ، وجُؤْجُؤُهُ كَجُؤْجُؤِ الطّائِرِ، وذَنَبُهُ كَذَنَبِ الدِّيكِ، واجْعَلْها مُطْبَقَةً، وبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ جِبْرِيلَ يُعَلِّمُهُ، وأوْحى إلَيْهِ أنْ عَجِّلْ عَمَلَ السَّفِينَةِ فَقَدِ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلى مَن عَصانِي، فاسْتَأْجَرَ نَجّارِينَ يَعْمَلُونَ مَعَهُ، وسِامُ، وحامُ، ويافِثُ، مَعَهُ يَنْحِتُونَ السَّفِينَةَ، فَجَعَلَ طُولَها سِتَّمِائَةِ ذِراعٍ، وعَرْضَها ثَلاثَمِائَةٍ وثَلاثِينَ ذِراعًا، وعُلُوَّها ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وفَجَّرَ اللَّهُ لَهُ عَيْنَ القارِ تَغْلِي غَلَيانًا حَتّى طَلاها. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: جَعَلَ لَها ثَلاثَ بُطُونٍ، فَحَمَلَ في البَطْنِ الأوَّلِ الوُحُوشَ والسِّباعَ والهَوامَّ، وفي الأوْسَطِ الدَّوابَّ والأنْعامَ، ورَكِبَ هو ومَن مَعَهُ البَطْنَ الأعْلى. ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: كانَتْ سَفِينَةُ نُوحٍ طُولُها ألْفُ ذِراعٍ، ومِائَتا ذِراعِ، وعَرْضُها سِتُّمِائَةِ ذِراعٍ. وقالَ قَتادَةُ: كانَتْ (p-١٠٣)فِيما ذُكِرَ لَنا طُولُها ثَلاثُمِائَةِ ذِراعٍ، وعَرْضُها خَمْسُمِائَةِ ذِراعٍ، وطُولُها في السَّماءِ ثَلاثُونَ ذِراعًا. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كانَ طُولُها ثَلاثَمِائَةِ ذِراعٍ، وعَرْضُها خَمْسِينَ ومِائَةَ ذِراعٍ، وطُولُها في السَّماءِ ثَلاثُونَ ذِراعًا، وكانَ في أعْلاها الطَّيْرُ، وفي وسَطِها النّاسُ، وفي أسْفَلِها السِّباعُ. وزَعَمَ مُقاتِلٌ أنَّهُ عَمِلَ السَّفِينَةَ في أرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنهُ﴾ فِيهِ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهم رَأوْهُ يَبْنِي السَّفِينَةَ وما رَأوْا سَفِينَةً قَطُّ، فَكانُوا يَسْخَرُونَ ويَقُولُونَ: صِرْتَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ نَجّارًا، وهَذا قَوْلُ ابْنِ إسْحاقَ. والثّانِي: أنَّهم قالُوا لَهُ: ما تَصْنَعُ ؟ فَقالَ: أبْنِي بَيْتًا يَمْشِي عَلى الماءِ، فَسَخِرُوا مِن قَوْلِهِ، وهَذا قَوْلُ مُقاتِلٍ. وَفِي قَوْلِهِ: ﴿إنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ﴾ خَمْسَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: إنْ تَسْخَرُوا مِن قَوْلِنا فَإنّا نَسْخَرُ مِن غَفْلَتِكم. والثّانِي: إنْ تَسْخَرُوا مِن فِعْلِنا عِنْدَ بِناءِ السَّفِينَةِ، فَإنّا نَسْخَرُ مِنكم عِنْدَ الغَرَقِ، ذَكَرَهُ المُفَسِّرُونَ. والثّالِثُ: إنْ تَسْخَرُوا مِنّا في الدُّنْيا، فَإنّا نَسْخَرُ مِنكم في الآخِرَةِ، قالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. والرّابِعُ: إنْ تَسْتَجْهِلُونا فَإنّا نَسْتَجْهِلُكم، قالَهُ الزَّجّاجُ. والخامِسُ: إنْ تَسْخَرُوا مِنّا، فَإنّا نَسْتَنْصِرُ اللَّهَ عَلَيْكم، فَسَمّى هَذا سُخْرِيَةً، لِيَتَّفِقَ اللَّفْظانِ كَما بَيَّنّا في قَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البَقَرَةِ:١٥]، هَذا قَوْلُ ابْنِ الأنْبارِيِّ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ يَكُنْ في الأرْضِ قَبْلَ الطُّوفانِ نَهْرٌ ولا بَحْرٌ، فَلِذَلِكَ سَخِرُوا مِنهُ، وإنَّما مِياهُ البِحارِ بَقِيَّةُ الطُّوفانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب