الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا جَرَمَ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ: حَقًّا إنَّهُمُ الأخْسَرُونَ. وقالَ الفَرّاءُ: " لا جَرَمَ " كَلِمَةٌ كانَتْ في الأصْلِ بِمَنزِلَةِ لا بُدَّ ولا مَحالَةَ، فَجَرَتْ عَلى ذَلِكَ، وكَثُرَ اسْتِعْمالُهم إيّاها حَتّى صارَتْ بِمَنزِلَةِ " حَقًّا "، ألا تَرى أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: لا جَرَمَ لَآتِيَنَّكَ، لا جَرَمَ لَقَدْ أحْسَنْتَ، وأصْلُها مِن جَرَمْتُ، أيْ: كَسَبْتُ الذَّنْبَ. قالَ الزَّجّاجُ: ومَعْنى " لا جَرَمَ ": " لا " نَفْيٌ لِما ظَنُّوا أنَّهُ يَنْفَعُهم (p-٩٢)كَأنَّ المَعْنى: لا يَنْفَعُهم ذَلِكَ جَرَمَ أنَّهم في الآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ، أيْ: كَسَبَ لَهم ذَلِكَ الفِعْلُ الخُسْرانَ. وذَكَرَ ابْنُ الأنْبارِيِّ أنَّ " لا " رَدٌّ عَلى أهْلِ الكُفْرِ فِيما قَدَّرُوهُ مِنِ انْدِفاعِ الشَّرِّ عَنْهم في الآخِرَةِ، والمَعْنى: لا يَنْدَفِعُ عَنْهم عَذابِي، ولا يَجِدُونَ ولِيًّا يَصْرِفُ عَنْهم نِقْمَتِي، ثُمَّ ابْتَدَأ مُسْتَأْنِفًا " جَرَمَ "، قالَ: وفِيها قَوْلانِ:
أحَدُهُما: أنَّها بِمَعْنى: كَسَبَ كَفْرُهم وما قَدَّرُوا مِنَ الباطِلِ وُقُوعَ العَذابِ بِهِمْ. فَـ " جَرَمَ " فِعْلٌ ماضٍ، مَعْناهُ: كَسَبَ، وفاعِلُهُ مُضْمَرٌ فِيهِ مِن ذِكْرِ الكُفْرِ وتَقْرِيرِ الباطِلِ.
والثّانِي: أنَّ مَعْنى جَرَمَ: أحَقَّ وصَحَّحَ، وهو فِعْلٌ ماضٍ، وفاعِلُهُ مُضْمَرٌ فِيهِ، والمَعْنى: أحَقَّ كُفْرُهم وُقُوعَ العَذابِ والخُسْرانِ بِهِمْ، قالَ الشّاعِرُ:
؎ ولَقَدْ طَعَنْتَ أبا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً جَرَمَتْ فَزارَةَ بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا
أرادَ: حَقَّتِ الطَّعْنَةُ فَزارَةَ بِالغَضَبِ. ومِنَ العَرَبِ مَن يُغَيِّرُ لَفْظَ " جَرَمَ " مَعَ " لا " خاصَّةً، فَيَقُولُ بَعْضُهم: " لا جُرْمَ "، ويَقُولُ آخَرُونَ: " لا جَرْ " بِإسْقاطِ المِيمِ، ويُقالُ: " لاذا جَرَمَ " و " لاذا جَرْ " بِغَيْرِ مِيمٍ، و" لا إنْ ذا جُرْمٌ " و " لا عَنْ ذا جُرْمٌ "، ومَعْنى اللُّغاتِ كُلِّها: حَقًّا.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ﴾ فِيهِ سَبْعَةُ أقْوالٍ:
أحَدُها: خافُوا رَبَّهم، رَواهُ ابْنُ أبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنابُوا إلى رَبِّهِمْ، رَواهُ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّالِثُ: ثابُوا إلى رَبِّهِمْ، قالَهُ قَتادَةُ. (p-٩٣)والرّابِعُ: اطْمَأنُّوا، قالَهُ مُجاهِدٌ. والخامِسُ: أخْلَصُوا، قالَهُ مُقاتِلٌ. والسّادِسُ: تَخْشَّعُوا لِرَبِّهِمْ، قالَهُ الفَرّاءُ. والسّابِعُ: تَواضَعُوا لِرَبِّهِمْ، قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ.
فَإنْ قِيلَ: لِمَ أُوثِرَتْ " إلى " عَلى اللّامِ في قَوْلِهِ: " وأخْبَتُوا إلى رَبِّهِمْ "، والعادَةُ جارِيَةٌ بِأنْ يُقالَ: أخْبَتُوا لِرَبِّهِمْ ؟
فالجَوابُ: أنَّ المَعْنى: وجَّهُوا خَوْفَهم وخُشُوعَهم وإخْلاصَهم إلى رَبِّهِمْ، واطْمَأنُّوا إلى رَبِّهِمْ. قالَ الفَرّاءُ: ورُبَّما جَعَلَتِ العَرَبُ " إلى " في مَوْضِعِ اللّامِ، كَقَوْلِهِ: ﴿بِأنَّ رَبَّكَ أوْحى لَها﴾ [الزِّلْزالِ:٥]، وقَوْلِهِ: ﴿الَّذِي هَدانا لِهَذا﴾ [الأعْرافِ:٤٣] . وقَدْ يَجُوزُ في العَرَبِيَّةِ: فُلانٌ يُخْبِتُ إلى اللَّهِ، يُرِيدُ: يَفْعَلُ ذَلِكَ مُوَجِّهَهُ إلى اللَّهِ. قالَ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الآيَةُ نازِلَةٌ في أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وما قَبْلَها نازِلٌ في المُشْرِكِينَ. ثُمَّ ضَرَبَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَثَلًا، فَقالَ: ﴿مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كالأعْمى والأصَمِّ﴾ قالَ مُجاهِدٌ: الفَرِيقانِ المُؤْمِنُ والكافِرُ. فَأمّا الأعْمى والأصَمُّ فَهو الكافِرُ، وأمّا البَصِيرُ والسَّمِيعُ فَهو المُؤْمِنُ. قالَ قَتادَةُ: الكافِرُ عَمِيَ عَنِ الحَقِّ وصُمَّ عَنْهُ، والمُؤْمِنُ: أبَصَرَ الحَقَّ وسَمِعَهُ ثُمَّ انْتَفَعَ بِهِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: في الكَلامِ ضَمِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كَمَثَلِ الأعْمى. وقالَ الزَّجّاجُ: مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ المُسْلِمَيْنِ كالبَصِيرِ والسَّمِيعِ، ومَثَلُ فَرِيقِ الكافِرِينَ كالأعْمى والأصَمِّ، لِأنَّهم في عَداوَتِهِمْ وتَرْكِهِمْ لِلْفَهْمِ بِمَنزِلَةِ مِن يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ.
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلا﴾ أيْ: هَلْ يَسْتَوِيانِ في المُشابَهَةِ ؟
والمَعْنى: كَما لا يَسْتَوِيانِ عِنْدَكم، كَذَلِكَ لا يَسْتَوِي المُؤْمِنُ والكافِرُ عِنْدَ اللَّهِ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: " هَلْ " هاهُنا بِمَعْنى الإيجابِ، لا بِمَعْنى الِاسْتِفْهامِ، والمَعْنى: لا يَسْتَوِيانِ. قالَ الفَرّاءُ: وإنَّما لَمْ يَقُلْ: " يَسْتَوُونَ " لِأنَّ الأعْمى والأصَمَّ مِن (p-٩٤)صِفَةِ واحِدٍ، والسَّمِيعَ والبَصِيرَ مِن صِفَةِ واحِدٍ، كَقَوْلِ القائِلِ: مَرَرْتُ بِالعاقِلِ واللَّبِيبِ، وهو يَعْنِي واحِدًا، قالَ الشّاعِرُ:
؎ وما أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضًا ∗∗∗ أُرِيدُ الخَيْرَ أيُّهُما يَلِينِي
فَقالَ: أيُّهُما. وإنَّما ذَكَرَ الخَيْرَ وحْدَهُ، لِأنَّ المَعْنى يُعْرَفُ، إذِ المُبْتَغِي لِلْخَيْرِ مُتَّقٍ لِلشَّرِّ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: الأعْمى والأصَمُّ صِفَتانِ لِكافِرٍ، والسَّمِيعُ والبَصِيرُ صِفَتانِ لِمُؤْمِنٍ، فَرَدَّ الفِعْلَ إلى المَوْصُوفِينَ بِالأوْصافِ الأرْبَعَةِ، كَما تَقُولُ: العاقِلُ والعالِمُ، والظّالِمُ والجاهِلُ، حَضَرا مَجْلِسِي، فَتُثَنِّي الخَبَرَ بَعْدَ ذِكْرِكَ أرْبَعَةً، لِأنَّ المَوْصُوفَ بِالعِلْمِ هو المَوْصُوفُ بِالعَقْلِ، وكَذَلِكَ المَنعُوتُ بِالجَهْلِ هو المَنعُوتُ بِالظُّلْمِ، فَلَمّا كانَ المَنعُوتانِ اثْنَيْنِ، رَجَعَ الخَبَرُ إلَيْهِما، ولَمْ يُلْتَفَتْ إلى تَفْرِيقِ الأوْصافِ، ألا تَرى أنَّهُ يَسُوغُ أنْ تَقُولَ: الأدِيبُ واللَّبِيبُ والكَرِيمُ والجَمِيلُ قَصَدَنِي، فَتُوَحِّدُ الفِعْلَ بَعْدَ أوْصافٍ لِعِلَّةِ أنَّ المَوْصُوفَ بِهِنَّ واحِدٌ، ولا يَمْتَنِعُ عَطْفُ النُّعُوتِ عَلى النُّعُوتِ بِحُرُوفِ العَطْفِ، والمَوْصُوفُ واحِدٌ، فَقَدْ قالَ تَعالى: ﴿التّائِبُونَ العابِدُونَ﴾ [التَّوْبَةِ:١١٢] ثُمَّ قالَ: " الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ " فَلَمْ يَقْتَضِ دُخُولُ الواوِ وُقُوعَ خِلافٍ بَيْنِ الآمِرِينَ والنّاهِينَ، وقَدْ قِيلَ: الآمِرُ بِالمَعْرُوفِ ناهٍ عَنِ المُنْكَرِ في حالِ أمْرِهِ، وكانَ دُخُولُ الواوِ دَلالَةً عَلى الآمِرِ بِالمَعْرُوفِ، لِأنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ لا يَنْفَرِدُ دُونَ النَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، كَما يَنْفَرِدُ الحامِدُونَ بِالحَمْدِ دُونَ السّائِحِينَ، والسّائِحُونَ بِالسِّياحَةِ دُونَ الحامِدِينَ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ العَرَبَ تَنْسِقُ النَّعْتَ عَلى النَّعْتِ والمَنعُوتُ واحِدٌ، كَقَوْلِ الشّاعِرِ يُخاطِبُ سَعِيدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ:(p-٩٥)
؎ يَظُنُّ سَعِيدٌ وابْنُ عَمْرٍو بِأنَّنِي ∗∗∗ إذا سامَنِي ذُلًّا أكُونُ بِهِ أرْضى
فَنَسَقَ ابْنَ عَمْرٍو عَلى سَعِيدٍ، وهو سَعِيدٌ.
{"ayahs_start":22,"ayahs":["لَا جَرَمَ أَنَّهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمُ ٱلۡأَخۡسَرُونَ","إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ وَأَخۡبَتُوۤا۟ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ","۞ مَثَلُ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِیرِ وَٱلسَّمِیعِۚ هَلۡ یَسۡتَوِیَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ"],"ayah":"۞ مَثَلُ ٱلۡفَرِیقَیۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِیرِ وَٱلسَّمِیعِۚ هَلۡ یَسۡتَوِیَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق