الباحث القرآني

(p-٨٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ﴾ في المُرادِ بِالبَيِّنَةِ أرْبَعَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها الدِّينُ قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قالَهُ الضَّحّاكُ. والثّالِثُ: القُرْآنُ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. والرّابِعُ: البَيانُ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وفي المُشارِ إلَيْهِ بِـ " مِن " قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والجُمْهُورُ. والثّانِي: أنَّهُمُ المُسْلِمُونَ، وهو يُخَرَّجُ عَلى قَوْلِ الضَّحّاكِ. وفي قَوْلِهِ: ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يَتْبَعُهُ. والثّانِي: يَقْرَؤُهُ. وفي هاءِ " يَتْلُوهُ " قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّها تَرْجِعُ إلى النَّبِيِّ ﷺ . والثّانِي: إلى القُرْآنِ، وقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ في قَوْلِهِ: ﴿فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ﴾ [هُودٍ:١٣] . وَفِي المُرادِ بِالشّاهِدِ ثَمانِيَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ جِبْرِيلُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٌ، وعِكْرِمَةُ وإبْراهِيمُ في آخَرِينَ. والثّانِي: أنَّهُ لِسانُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي كانَ يَتْلُو القُرْآنَ، قالَهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، والحَسَنُ، وقَتادَةُ في آخَرِينَ. (p-٨٦)والثّالِثُ: أنَّهُ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ. و " يَتْلُوهُ " بِمَعْنى يَتْبَعُهُ، رَواهُ جَماعَةٌ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، وبِهِ قالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ. والرّابِعُ: أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هو شاهِدٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى، قالَهُ الحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ. والخامِسُ: أنَّهُ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ ويُسَدِّدُهُ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والسّادِسُ: أنَّهُ الإنْجِيلُ يَتْلُو القُرْآنَ بِالتَّصْدِيقِ، وإنْ كانَ قَدْ أُنْزِلَ قَبْلَهُ، لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَشَّرَتْ بِهِ التَّوْراةُ، قالَهُ الفَرّاءُ. والسّابِعُ: أنَّهُ القُرْآنُ ونَظْمُهُ وإعْجازُهُ، قالَهُ الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ. والثّامِنُ: أنَّهُ صُورَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ووَجْهُهُ ومَخايِلُهُ، لِأنَّ كُلَّ عاقِلٍ نَظَرَ إلَيْهِ عَلِمَ أنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ . وَفِي هاءِ " مِنهُ " ثَلاثَةُ أقْوالٍ أحَدُها: أنَّها تَرْجِعُ إلى اللَّهِ تَعالى. والثّانِي: إلى النَّبِيِّ ﷺ . والثّالِثُ: إلى البَيِّنَةِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَمِن قَبْلِهِ﴾ في هَذِهِ الهاءِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّها تَرْجِعُ إلى النَّبِيِّ ﷺ، قالَهُ مُجاهِدٌ. والثّانِي: إلى القُرْآنِ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. والثّالِثُ: إلى الإنْجِيلِ، أيْ: ومِن قَبْلِ الإنْجِيلِ ﴿كِتابُ مُوسى﴾ يَتْبَعُ مُحَمَّدًا بِالتَّصْدِيقِ لَهُ، ذَكَرَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. قالَ الزَّجّاجُ: والمَعْنى: وكانَ مِن قَبْلِ هَذا كِتابُ مُوسى دَلِيلًا عَلى أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَكُونُ ﴿كِتابُ مُوسى﴾ عَطْفًا عَلى قَوْلِهِ: ﴿وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ أيْ: ويَتْلُوهُ كِتابُ مُوسى، لِأنَّ مُوسى وعِيسى بَشَّرا بِالنَّبِيِّ ﷺ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. ونَصْبُ إمامًا عَلى الحالِ. فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ تَتْلُوهُ التَّوْراةُ، وهي قَبْلَهُ ؟ (p-٨٧)قِيلَ: لَمّا بَشَّرَتْ بِهِ، كانَتْ كَأنَّها تالِيَةً لَهُ، لِأنَّها تَبِعَتْهُ بِالتَّصْدِيقِ لَهُ. وَقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: ﴿كِتابُ مُوسى﴾ مَفْعُولٌ في المَعْنى، لِأنَّ جِبْرِيلَ تَلاهُ عَلى مُوسى، فارْتَفَعَ الكِتابُ، وهو مَفْعُولٌ بِمُضْمَرٍ بَعْدَهُ، تَأْوِيلُهُ: ومِن قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى كَذاكَ، أيْ: تَلاهُ جِبْرِيلُ أيْضًا، كَما تَقُولُ العَرَبُ: أكْرَمْتُ أخاكَ وأبُوكَ، فَيَرْفَعُونَ الأبَ، وهو مُكْرَمٌ عَلى الِاسْتِئْنافِ، بِمَعْنى وأبُوكَ مُكْرَمٌ أيْضًا. قالَ: وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّ كِتابَ مُوسى فاعِلٌ، لِأنَّهُ تَلا مُحَمَّدًا بِالتَّصْدِيقِ كَما تَلاهُ الإنْجِيلُ. * فَصْلٌ فَتَلْخِيصُ الآيَةِ: أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ كَمَن لَمْ يَكُنْ ؟ قالَ الزَّجّاجُ: تَرَكَ المُضادَّ لَهُ، لِأنَّ في ما بَعْدَهُ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿مَثَلُ الفَرِيقَيْنِ كالأعْمى والأصَمِّ﴾ [هُودٍ:٢٤] . وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَمّا ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْمًا رَكَنُوا إلى الدُّنْيا، جاءَ بِهَذِهِ الآيَةِ، وتَقْدِيرُ الكَلامِ: أفَمَن كانَتْ هَذِهِ حالَهُ كَمَن يُرِيدُ الدُّنْيا ؟ فاكْتَفى مِنَ الجَوابِ بِما تَقَدَّمَ، إذْ كانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: إنَّما حُذِفَ لِانْكِشافِ المَعْنى، والمَحْذُوفُ المُقَدَّرُ كَثِيرٌ في القُرْآنِ والشِّعْرِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎ فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أتانا رَسُولُهُ سِواكِ ولَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكِ مَدْفَعا (p-٨٨)فَإنْ قُلْنا: إنَّ المُرادَ بِمَن كانَ عَلى بَيِّنَةِ رَبِّهِ، رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَمَعْنى الآيَةِ: ويَتْبَعُ هَذا النَّبِيَّ شاهِدٌ، وهو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ. " مِنهُ " أيْ: مِنَ اللَّهِ. وقِيلَ: " شاهِدٌ " هو عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ، " مِنهُ " أيْ: مِنَ النَّبِيِّ ﷺ . وقِيلَ: " يَتْلُوهُ " يَعْنِي القُرْآنَ، يَتْلُوهُ جِبْرِيلُ، وهو شاهِدٌ لِمُحَمَّدٍ ﷺ أنَّ الَّذِي يَتْلُوهُ جاءَ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى. وقِيلَ: ويَتْلُو رَسُولُ اللَّهِ ﷺ القُرْآنَ وهو شاهِدٌ مِنَ اللَّهِ. وقِيلَ: ويَتْلُو لِسانُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ القُرْآنَ، فَلِسانُهُ شاهِدٌ مِنهُ. وقِيلَ: ويَتْبَعُ مُحَمَّدًا شاهِدٌ لَهُ بِالتَّصْدِيقِ، وهو الإنْجِيلُ مِنَ اللَّهِ تَعالى. وقِيلَ: ويَتْبَعُ هَذا النَّبِيَّ شاهِدٌ مِن نَفْسِهِ، وهو سَمْتُهُ وهَدْيُهُ الدّالُّ عَلى صِدْقِهِ. وإنْ قُلْنا: إنَّ المُرادَ بِمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ المُسْلِمُونَ، فالمَعْنى: أنَّهم يَتْبَعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وهو البَيِّنَةُ، ويَتْبَعُ هَذا النَّبِيَّ شاهِدٌ لَهُ بِصِدْقِهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إمامًا ورَحْمَةً﴾ إنَّما سَمّاهُ إمامًا، لِأنَّهُ كانَ يُهْتَدى بِهِ، " ورَحْمَةً " أيْ: وذا رَحْمَةٍ، وأرادَ بِذَلِكَ التَّوْراةَ، لِأنَّها كانَتْ إمامًا وسَبَبًا لِرَحْمَةِ مَن آمَنَ بِها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ﴾ فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: أحَدُها: أنَّهُ إشارَةٌ إلى أصْحابِ مُوسى. والثّانِي: إلى أصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ . والثّالِثُ: إلى أهْلِ الحَقِّ مِن أُمَّةِ مُوسى وعِيسى ومُحَمَّدٍ. وَفِي هاءِ " بِهِ " ثَلاثَةُ أقْوالٍ أحَدُها: أنَّها تَرْجِعُ إلى التَّوْراةِ. والثّانِي: إلى القُرْآنِ. والثّالِثُ: إلى مُحَمَّدٍ ﷺ . وَفِي المُرادِ بِالأحْزابِ هاهُنا أرْبَعَةُ أقْوالٍ:أحَدُها: جَمِيعُ المِلَلِ، قالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. والثّانِي: اليَهُودُ والنَّصارى، قالَهُ قَتادَةُ. والثّالِثُ: قُرَيْشٌ، قالَهُ السُّدِّيُّ. والرّابِعُ: بَنُو أُمَيَّةَ، وبَنُو المُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المَخْزُومِيِّ، وآلُ أبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ العُزّى، قالَهُ مُقاتِلٌ. (p-٨٩)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فالنّارُ مَوْعِدُهُ﴾ أيْ: إلَيْها مَصِيرُهُ، قالَ حَسّانُ بْنُ ثابِتٍ: ؎ أوْرَدْتُمُوها حِياضَ المَوْتِ ضاحِيَةً ∗∗∗ فالنّارُ مَوْعِدُها والمَوْتُ لاقِيها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَكُ في مِرْيَةٍ مِنهُ﴾ قَرَأ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: " مُرْيَةٍ " بِضَمِّ المِيمِ أيْنَ وقَعَ. وفي المَكْنِيِّ عَنْهُ قَوْلانِ: أحَدُهُما: أنَّهُ الإخْبارُ بِمَصِيرِ الكافِرِ بِهِ، فالمَعْنى: فَلا تَكُ في شَكٍّ أنَّ مَوْعِدَ المُكَذِّبِ بِهِ النّارُ، وهَذا قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّهُ القُرْآنُ، فالمَعْنى: فَلا تَكُ في شَكٍّ مِن أنَّ القُرْآنَ مِنَ اللَّهِ تَعالى، قالَهُ مُقاتِلٌ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: والمُرادُ بِالنّاسِ هاهُنا: أهْلُ مَكَّةَ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ﴾ قالَ الزَّجّاجُ: ذَكَرَ عَرْضَهم تَوْكِيدًا لِحالِهِمْ في الِانْتِقامِ مِنهم، وإنْ كانَ غَيْرُهم يُعْرَضُ أيْضًا. فَأمّا " الأشْهادُ " فَفِيهِمْ خَمْسَةُ أقْوالٍ:أحَدُها: أنَّهُمُ الرُّسُلُ، قالَهُ أبُو صالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. والثّانِي: المَلائِكَةُ قالَهُ مُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. والثّالِثُ: الخَلائِقُ، رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أيْضًا. وقالَ مُقاتِلٌ: ﴿الأشْهادُ﴾ النّاسُ، كَما يُقالُ: عَلى رُؤُوسِ الأشْهادِ، أيْ: عَلى رُؤُوسِ النّاسِ، والرّابِعُ: المَلائِكَةُ والنَّبِيُّونَ وأُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ يَشْهَدُونَ عَلى النّاسِ، والجَوارِحُ تَشْهَدُ عَلى ابْنِ آدَمَ، قالَهُ ابْنُ زَيْدٍ. والخامِسُ: الأنْبِياءُ والمُؤْمِنُونَ، قالَهُ الزَّجّاجُ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: وفائِدَةُ إخْبارِ الأشْهادِ بِما يَعْلَمُهُ اللَّهُ: تَعْظِيمٌ بِالأمْرِ المَشْهُودِ عَلَيْهِ، ودَفْعُ المُجاحَدَةِ فِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب