أخْبَرَنا أحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ المَخْلَدِيُّ، قالَ: أخْبَرَنا أبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيادٍ الدَّقّاقُ، قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى العَتَكِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ، قالَ: حَدَّثَنا داوُدُ الطُّفاوِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا أبُو مُسْلِمٍ البَجَلِيُّ، قالَ: سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أرْقَمَ يَقُولُ: أتى ناسٌ النَّبِيَّ ﷺ، فَجَعَلُوا يُنادُونَهُ وهو في حُجْرَةٍ: يا مُحَمَّدُ، يا مُحَمَّدُ. فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ .
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ وغَيْرُهُ: نَزَلَتْ في جُفاةِ بَنِي تَمِيمٍ، قَدِمَ وفْدٌ مِنهم عَلى النَّبِيِّ ﷺ فَدَخَلُوا المَسْجِدَ فَنادَوُا النَّبِيَّ ﷺ مِن وراءِ حُجْرَتِهِ أنِ اخْرُجْ إلَيْنا يا مُحَمَّدُ؛ فَإنَّ مَدْحَنا زَيْنٌ، وإنَّ ذَمَّنا شَيْنٌ. فَآذى ذَلِكَ مِن صِياحِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقالُوا: إنّا جِئْناكَ يا مُحَمَّدُ نُفاخِرُكَ. ونَزَلَ فِيهِمُ القُرْآنُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ أكْثَرُهم لا يَعْقِلُونَ﴾ . وكانَ فِيهِمُ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، والزِّبْرِقانُ بْنُ بَدْرٍ، وقَيْسُ بْنُ عاصِمٍ.
وكانَتْ قِصَّةُ هَذِهِ المُفاخَرَةِ عَلى ما أخْبَرَناهُ أبُو إسْحاقَ أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ المُقْرِئُ، قالَ: أخْبَرَنا الحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ السَّدُوسِيُّ، قالَ: حَدَّثَنا الحَسَنُ بْنُ صالِحِ بْنِ هانِئٍ، قالَ: حَدَّثَنا الفَضْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ المُسَيَّبِ، قالَ: حَدَّثَنا القاسِمُ بْنُ أبِي شَيْبَةَ، قالَ: حَدَّثَنا مُعَلّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الحَكَمِ، عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: جاءَ بَنُو تَمِيمٍ إلى النَّبِيِّ ﷺ، فَنادَوْا عَلى البابِ: يا مُحَمَّدُ، اخْرُجْ إلَيْنا فَإنَّ مَدْحَنا زَيْنٌ، وإنَّ ذَمَّنا شَيْنٌ. فَسَمِعَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وهو يَقُولُ: ”إنَّما ذَلِكُمُ اللَّهُ الَّذِي مَدْحُهُ زَيْنٌ، وذَمُّهُ شَيْنٌ“ . فَقالُوا: نَحْنُ ناسٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ، جِئْنا بِشاعِرِنا وخَطِيبِنا نُشاعِرُكَ ونُفاخِرُكَ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”ما بِالشِّعْرِ بُعِثْتُ، ولا بِالفَخارِ أُمِرْتُ، ولَكِنْ هاتُوا“ . فَقالَ الزِّبْرِقانُ بْنُ بَدْرٍ لِشابٍّ مِن شُبّانِهِمْ: قُمْ فاذْكُرْ فَضْلَكَ وفَضْلَ قَوْمِكَ. فَقامَ فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنا خَيْرَ خَلْقِهِ، وآتانا أمْوالًا نَفْعَلُ فِيها ما نَشاءُ، فَنَحْنُ مِن خَيْرِ أهْلِ الأرْضِ، ومِن أكْثَرِهِمْ عُدَّةً ومالًا وسِلاحًا، فَمَن أنْكَرَ عَلَيْنا قَوْلَنا فَلْيَأْتِ بِقَوْلٍ هو أحْسَنُ مِن قَوْلِنا، وفِعالٍ هو خَيْرٌ مِن فِعالِنا. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِثابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ: ”قُمْ فَأجِبْهُ“ . فَقامَ فَقالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ أحْمَدُهُ وأسْتَعِينُهُ، وأُومِنُ بِهِ وأتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، دَعا المُهاجِرِينَ مِن بَنِي عَمِّهِ - أحْسَنِ النّاسِ وُجُوهًا، وأعْظَمِهِمْ أحْلامًا - فَأجابُوهُ، فالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنا أنْصارَهُ، ووُزَراءَ رَسُولِهِ، وعِزًّا لِدِينِهِ، فَنَحْنُ نُقاتِلُ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فَمَن قالَها مَنَعَ مِنّا نَفْسَهُ ومالَهُ، ومَن أباها قَتَلْناهُ، وكانَ رُغْمُهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلَيْنا هَيِّنًا، أقُولُ قَوْلِي هَذا وأسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ. فَقالَ الزِّبْرِقانُ بْنُ بَدْرٍ لِشابٍّ مِن شُبّانِهِمْ: قُمْ يا فُلانُ فَقُلْ أبْياتًا تَذْكُرُ فِيها فَضْلَكَ وفَضْلَ قَوْمِكَ. فَقامَ الشّابُّ فَقالَ:
نَحْنُ الكِرامُ فَلا حَيٌّ يُعادِلُنا
فِينا الرُّءُوسُ وفِينا يُقْسَمُ الرُّبُعُ
ونُطْعِمُ النّاسَ عِنْدَ القَحْطِ كُلَّهُمُ
مِنَ السَّدِيفِ إذا لَمْ يُؤْنَسِ القَزَعُ
إذا أبَيْنا فَلا يَأْبى لَنا أحَدٌ
إنّا كَذَلِكَ عِنْدَ الفَخْرِ نَرْتَفِعُ
قالَ: فَأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى حَسّانَ بْنِ ثابِتٍ، فانْطَلَقَ إلَيْهِ الرَّسُولُ، فَقالَ: وما يُرِيدُ مِنِّي وقَدْ كُنْتُ عِنْدَهُ ؟ قالَ: جاءَتْ بَنُو تَمِيمٍ بِشاعِرِهِمْ وخَطِيبِهِمْ، فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثابِتَ بْنَ قَيْسٍ فَأجابَهم، وتَكَلَّمَ شاعِرُهم فَأرْسَلَ إلَيْكَ تُجِيبُهُ. فَجاءَ حَسّانُ، فَأمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُجِيبَهُ، فَقالَ حَسّانُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْهُ فَلْيُسْمِعْنِي ما قالَ. فَأنْشَدَهُ ما قالَ، فَقالَ حَسّانُ عِنْدَ ذَلِكَ:
نَصَرْنا رَسُولَ اللَّهِ والدِّينَ عَنْوَةً
عَلى رَغْمِ بادٍ مِن مَعَدٍّ وحاضِرِ
ألَسْنا نَخُوضُ المَوْتَ في حَوْمَةِ الوَغى
إذا طابَ وِرْدُ المَوْتِ بَيْنَ العَساكِرِ
ونَضْرِبُ هامَ الدّارِعِينَ ونَنْتَمِي
إلى حَسَبٍ مِن جِذْمِ غَسّانَ قاهِرِ
فَلَوْلا حَياءُ اللَّهِ قُلْنا تَكَرُّمًا
عَلى النّاسِ بِالخَيْفَيْنِ: هَلْ مِن مُنافِرِ
فَأحْياؤُنا مِن خَيْرِ مَن وطِئَ الحَصى
وأمْواتُنا مِن خَيْرِ أهْلِ المَقابِرِ
قالَ: فَقامَ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ فَقالَ: إنِّي واللَّهِ لَقَدْ جِئْتُ لِأمْرٍ ما جاءَ لَهُ هَؤُلاءِ، وقَدْ قُلْتُ شِعْرًا فاسْمَعْهُ. فَقالَ: ”هاتِ“ . فَقالَ:
أتَيْناكَ كَيْما يَعْرِفُ النّاسُ فَضْلَنا
إذا فاخَرُونا عِنْدَ ذِكْرِ المَكارِمِ
وإنّا رُءُوسُ النّاسِ مِن كُلِّ مَعْشَرٍ
وأنْ لَيْسَ في أرْضِ الحِجازِ كَدارِمِ
وإنَّ لَنا المِرْباعَ في كُلِّ غارَةٍ
تَكُونُ بِنَجْدٍ أوْ بِأرْضِ التَّهائِمِ
فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”قُمْ يا حَسّانُ فَأجِبْهُ“ . فَقامَ حَسّانُ فَقالَ:
بَنِي دارِمٍ لا تَفْخَرُوا إنَّ فَخْرَكُمْ
يَعُودُ وبالًا عِنْدَ ذِكْرِ المَكارِمِ
هَبِلْتُمْ، عَلَيْنا تَفْخَرُونَ وأنْتُمُ
لَنا خَوَلٌ مِن بَيْنِ ظِئْرٍ وخادِمِ
وأفْضَلُ ما نِلْتُمْ مِنَ المَجْدِ والعُلى
رِدافَتُنا مِن بَعْدِ ذِكْرِ الأكارِمِ
فَإنْ كُنْتُمُ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمائِكُمْ
وأمْوالِكم أنْ تُقْسَمُوا في المَقاسِمِ
فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وأسْلِمُوا
ولا تَفْخَرُوا عِنْدَ النَّبِيِّ بِدارِمِ
وإلّا ورَبِّ البَيْتِ مالَتْ أكُفُّنا
عَلى هامِكم بِالمُرَهَفاتِ الصَّوارِمِ
قالَ: فَقامَ الأقْرَعُ بْنُ حابِسٍ فَقالَ: إنَّ مُحَمَّدًا لَمُؤْتًى لَهُ، واللَّهِ ما أدْرِي ما هَذا الأمْرُ، تَكَلَّمَ خَطِيبُنا فَكانَ خَطِيبُهم أحْسَنَ قَوْلًا، وتَكَلَّمَ شاعِرُنا فَكانَ شاعِرُهم أشْعَرَ. ثُمَّ دَنا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: ”ما يَضُرُّكَ ما كانَ قَبْلَ هَذا“ . ثُمَّ أعْطاهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وكَساهم، وارْتَفَعَتِ الأصْواتُ، وكَثُرَ اللَّغَطُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآياتِ: ﴿لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ﴾ [الحجرات: ٢] . إلى قَوْلِهِ: ﴿وأجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [الحجرات: ٣] .
{"ayah":"إِنَّ ٱلَّذِینَ یُنَادُونَكَ مِن وَرَاۤءِ ٱلۡحُجُرَ ٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ"}