الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو خرج، أيها المؤمنون، فيكم هؤلاء المنافقون = ﴿ما زادوكم إلا خبالا﴾ ، يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادًا وضرًّا، ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم. * * * وقد بينا معنى "الخبال"، بشواهده فيما مضى قبل. [[انظر تفسير "الخبال" فيما سلف ٧: ١٣٩، ١٤٠.]] * * * ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ ، يقول: ولأسرعوا بركائبهم السَّير بينكم. * * * وأصله من "إيضاع الخيل والركاب"، وهو الإسراع بها في السير، يقال للناقة إذا أسرعت السير: "وضعت الناقة تَضَع وَضعًا ومَوْضوعًا"، و"أوضعها صاحبها"، إذا جدّ بها وأسرع، "يوضعها إيضاعًا"، ومنه قول الراجز: [[هو دريد بن الصمة.]] يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ [[سيرة ابن هشام ٤: ٨٢، واللسان (وضع) ، وغيرهما، وهذا رجز قاله دريد في يوم غزوة حنين، وكان خرج مع هوزان، عليهم مالك بن عوف النصري، ودريد بن الصمة يومئذ شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا مجربًا. وكان مالك بن عوف كره أن يكون لدريد بن الصمة رأي في حربهم هذه أو ذكر، فقال دريد: "هذا يوم لم أشهده ولم يفتني". يَا لَيْتنِي فِيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ أَقُودُ وَطْفَاء الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ "الجذع"، الصغير الشاب. و "الخبب"، ضرب من السير كالوضع. ثم وصف فرسه فيما تمنى. "وطفاء"، طويلة الشعر، و "الزمعة" الهنة الزائدة الناتئة فوق ظلف الشاة. و "الشاة" هنا: الوعل وهو شاة الجبل. و "صدع" الفتى القوي من الأوعال.]] * * * وأما أصل "الخلال"، فهو من "الخَلَل"، وهي الفُرَج تكون بين القوم، في الصفوف وغيرها. ومنه قول النبي ﷺ: "تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لا يَتَخَلَّلكُمْ [الشَّيَاطين، كأنها] أَوْلادُ الحذَفِ". [[لم يذكر إسناده، وهو حديث مشهور، رواه أبو داود في سننه ١: ٢٥٢، رقم: ٦٦٧، بغير هذا اللفظ، والنسائي في السنن ٢: ٩٢. والذي وضعته بين القوسين فيما رواه صاحب اللسان، لأنه في السنن: " كأنها الحذف "، وفي اللسان أيضًا " كأنها بنات حذف ". أما المطبوعة فقد ضم الكلام بعضه إلى بعض، مع أنه كان في المخطوطة، بياض بين "لا يتخللكم"، وبين "أولاد الحذف"، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ. و" الحذف " ضأن سود جرد صغار، ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها إلى الحجاز من جرش اليمن، واحدتها " حذفة " (بفتحتين) ، شبه الشياطين بها.]] * * * وأما قوله: ﴿يبغونكم الفتنة﴾ ، فإن معنى: "يبغونكم الفتنة"، يطلبون لكم ما تفتنون به، عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه. [[انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: ٨٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.]] * * * يقال منه: "بغيتُه الشر"، و"بغيتُه الخير" "أبغيه بُغاء"، إذا التمسته له، بمعنى: "بغيت له"، وكذلك "عكمتك" و"حلبتك"، بمعنى: "حلبت لك"، و"عكمت لك"، [["عكمه" و "عكم له"، هو أن يسوي له الأعدال على الدابة ويشدها.]] وإذا أرادوا: أعنتك على التماسه وطلبه، قالوا: "أبْغَيتُك كذا"، و"أحلبتك"، و"أعكمتك"، أي: أعنتك عليه. [[انظر تفسير "بغى" فيما سلف ١٣: ٨٤، تعليق: ١، والمراجع هناك. ثم انظر مثل هذا التفصيل فيما سلف ٧: ٥٣.]] * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٦٧٧١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ ، بينكم = ﴿يبغونكم الفتنة﴾ ، بذلك. ١٦٧٧٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ ، يقول: [ولأوضعوا بينكم] ، خلالكم، بالفتنة. [[في المطبوعة والمخطوطة: "ولأضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة"، وهو لا يفيد معنى، وظني أن "أسلحتهم" هي "بينكم" وهو تفسير "خلالكم" كما مر في أثر قتادة السالف، ولكنه أخر اللفظ الذي فسره وهو "خلالكم".]] ١٦٧٧٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة﴾ ، يبطئونكم قال: رفاعة بن التابوت، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول، وأوس بن قيظيّ. ١٦٧٧٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ ، قال: لأسرعوا الأزقة [[هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "الأزقة"، وهو جمع "زقاق" "بضم الزاي"، وهو الطريق الضيق، دون السكة، وجعل "الأزقة" مفعولا لقوله: "أسرعوا"، غريب، وأخشى أن يكون في الكلام خلل أو تصحيف.]] = ﴿خلالكم يبغونكم الفتنة﴾ ، يبطِّئونكم = عبد الله بن نبتل، ورفاعة بن تابوت، وعبد الله بن أبي ابن سلول. ١٦٧٧٥-...... قال حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ ، قال: لأسرعوا خلالكم يبغونكم الفتنة بذلك. ١٦٧٧٦- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا﴾ ، قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. يسلِّي الله عنه نبيه ﷺ والمؤمنين فقال: وما يُحزنكم؟ ﴿لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا﴾ ،! يقولون: "قد جُمع لكم، وفُعِل وفُعِل، يخذِّلونكم" = ﴿ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة﴾ ، الكفر. * * * وأما قوله: ﴿وفيكم سَمَّاعون لهم﴾ ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله. فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يؤدُّونه إليهم، عيون لهم عليكم. * ذكر من قال ذلك: ١٦٧٧٧- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿وفيكم سماعون لهم﴾ ، يحدِّثون أحاديثكم، عيونٌ غير منافقين. ١٦٧٧٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: ﴿وفيكم سماعون لهم﴾ ، قال: محدِّثون، عيون، غير المنافقين. [[في المطبوعة: "غير منافقين"، وأثبت ما في المخطوطة.]] ١٦٧٧٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: ﴿وفيكم سماعون لهم﴾ ، يسمعون ما يؤدُّونه لعدوِّكم. * * * وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويُطيع لهم. * ذكر من قال ذلك: ١٦٧٨٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ﴿وفيكم سماعون لهم﴾ ، وفيكم من يسمع كلامهم. ١٦٧٨١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوا، فيما بلغني من ذوي الشرف، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجدُّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم: أن يخرجوا معهم، فيفسدوا عليه جُنده. وكان في جنده قوم أهلُ محبةٍ لهم وطاعةٍ فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: ﴿وفيكم سمَّاعون لهم﴾ . [[الأثر: ١٦٧٨١ - صدر هذا الخبر مضى برقم: ١٦٧٧٠، وساقه هنا فيما بعد، وهو في سيرة ابن هشام ٤: ١٩٤، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٧٦٢.]] قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل: وفيكم أهلُ سمع وطاعة منكم، لو صحبوكم أفسدوهم عليكم، بتثبيطهم إياهم عن السير معكم. وأما على التأويل الأول، فإن معناه: وفيكم منهم سمَّاعون يسمعون حديثكم لهم، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم، عيون لهم عليكم. * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: معناه: "وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يبلغونه عنكم، عيون لهم"، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: "سمَّاع"، وصف من وصف به أنه سماع للكلام، كما قال الله جل ثناؤه في غير موضع من كتابه: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ [سورة المائدة: ٤١] ، واصفًا بذلك قومًا بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه: "له سامع ومطيع"، ولا تكاد تقول: = "هو له سماع مطيع". [[انظر تفسير " سماع " فيما سلف ١٠: ٣٠٩.]] * * * وأما قوله: ﴿والله عليم بالظالمين﴾ ، فإن معناه: والله ذو علم بمن يوجّه أفعاله إلى غير وجوهها، ويضعها في غير مواضعها، ومن يستأذن رسول الله ﷺ لعذر، ومن يستأذنه شكًّا في الإسلام ونفاقًا، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين، ومن يسمعه ليسرَّ بما سُرَّ به المؤمنون، [[في المطبوعة: "بما سر المؤمنين"، وفي المخطوطة: "بما سر المؤمنون"، وصوابها ما أثبت.]] ويساء بما ساءهم، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. [[انظر تفسير "عليم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .]] * * * وقد بينا معنى "الظلم" في غير موضع من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. [[انظر تفسير "الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب