الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (٣٨) ﴾ قال أبو جعفر: وهذه الآية حثٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم، وذلك غزوة رسول الله ﷺ تبوك. يقول جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله = ﴿ما لكم﴾ ، أيّ شيء أمرُكم = ﴿إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله﴾ ، يقول: إذا قال لكم رسولُ الله محمدٌ = ﴿انفروا﴾ ، أي: اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم. * * * وأصل "النفر"، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجه على ذلك. ومنه: "نفورًا الدابة". غير أنه يقال: من النفر إلى الغزو: "نَفَر فلان إلى ثغر كذا ينْفِر نَفْرًا ونَفِيرًا"، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرِّقون بها بين اختلاف المخبر عنه، [[يعني أبو جعفر، أنهم لم يقولوا في النفر إلى الغزو " نفورا " في مصدره، وقد أثبتت كتب اللغة أنه يقال في مصدره "نفر إلى الغزو نفورا".]] وإن اتفقت معاني الخبر. [[انظر "النفر" فيما سلف ٨: ٥٣٦، ولم يفسره هناك.]] * * * فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون، إذا قيل لكم: اخرجُوا غزاة = "في سبيل الله"، أي: في جهاد أعداء الله [[انظر تفسير "سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .]] = ﴿اثَّاقلتم إلى الأرض﴾ ، يقول: تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها. * * * وقيل: "اثّاقلتم" لإدغام "التاء" في "الثاء" فأحدثتْ لها ألف. [[في المطبوعة: "لأنه أدغم التاء في الثاء فأحدث لها ألف"، وكان في المخطوطة: "لأنه غام"، فلم يحسن قراءتها، فغير الكلام، فأثبته على الصواب من المخطوطة. وانظر ما سلف في الإدغام ٢: ٢٢٤.]] ليُتَوصَّل إلى الكلام بها، لأن "التاء" مدغمة في "الثاء". ولو أسقطت الألف، وابتدئ بها، لم تكن إلا متحركة، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها، كما قال جل ثناؤه: ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا﴾ ، [سورة الأعراف: ٣٨] ، وكما قال الشاعر: [[لم أعرف قائله]] تُولِي الضَّجِيعَ إذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا ... عَذْبَ المَذَاقِ، إذَا مَا أتَّابَعَ القُبَلُ [[مضى شرحه وتفسيره آنفًا ٢: ٢٢٣، ومعاني القرآن للفراء ١: ٤٣٨.]] [فهو من "الثقل"، ومجازه مجاز "افتعلتم"] ، من "التثاقل". [[مكان هذه الجملة في المطبوعة: "فهو بنى الفعل افتعلتم من التثاقل"، وهو كلام غث جدا. وفي المخطوطة: " فهو بين الفعل افتعلتم من التثاقل "، غير منقوط، وصححت هذه العبارة اجتهادا، مؤتنسًا بما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢٦٠، قال: " ومجاز: اثاقلتم، مجاز: افتعلتم، من التثاقل، فأدغمت التاء في الثاء، فثقلت وشددت ". يعني أبو عبيدة: أنك لو بنيت " افتعل " من " الثقل "، كان واجبا إدغام التاء في الثاء. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء ١: ٤٣٧، ٤٣٨.]] وقوله: ﴿أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة﴾ ، يقول جل ثناؤه، أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه = (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة) ، يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته [[انظر تفسير "متاع" فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .]] = ﴿إلا قليل﴾ ، يسير. يقول لهم: فاطلبوا، أيها المؤمنون، نعيم الآخرة، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه، [[في المطبوعة: "وترف الكرامة"، والصواب ما في المخطوطة.]] بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه. * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٦٧١٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض﴾ ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين. أمروا بالنَّفير في الصيف، حين خُرِفت النخل، [["خرف النخل يخرفه خرفًا، واخترفه اخترافًا"، صرم ثمره واجتناه بعد أن يطيب.]] وطابت الثمار، واشتَهُوا الظلال، وشقّ عليهم المخرج. ١٦٧٢٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض﴾ الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف. أمرهم بالنَّفير في الصيف، حين اختُرِفت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشقَّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: "الثقيل"، ذو الحاجة، والضَّيْعة، والشغل، [[في المطبوعة: "فقالوا: منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة ... "، غير ما في المخطوطة، وكان في المخطوطة ما أثبت. وهو مقبول، مع شكي في أن يكون سقط من الكلام شيء. وقوله: " الثقيل: ذو الحاجة والضيعة " هو تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافًا وثقالا) ، جمع " ثقيل "، كما سترى في تفسير الآية ص: ٢٦٢ وما بعدها.]] والمنتشرُ به أمره في ذلك كله. فأنزل الله: ﴿انفروا خفافا وثقالا﴾ ، [سورة التوبة: ٤١]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب