القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) ﴾
.
اختلف أهل التأويل في معنى قوله: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ فقال بعضهم: معنى ذلك: ماتت.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثني عليّ بن مسلم الطوسي، قال: ثنا عباد بن العوّام، قال: أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قول الله: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ قال: حَشْرُ البهائم: موتها، وحشر كل شيء: الموت، غير الجنّ والإنس، فإنهما يوقفان يوم القيامة.
⁕ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ قال: أتى عليها أمر الله، قال سفيان، قال أبي، فذكرته لعكرِمة، فقال: قال ابن عباس: حشرها: موتها.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم، بنحوه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وإذا الوحوش اختلطت.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا الحسين بن حريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس عن أبي العالية، قال: ثني أُبيّ بن كعب ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ قال: اختلطت.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: جُمعت.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ هذه الخلائق موافية يوم القيامة، فيقضي الله فيها ما يشاء.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى حشرت: جمعت، فأميتت لأن المعروف في كلام العرب من معنى الحشر: الجمع، ومنه قول الله: ﴿وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً﴾ يعني: مجموعة.
* * *
وقوله: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى﴾
وإنما يحمل تأويل القرآن على الأغلب الظاهر من تأويله، لا على الأنكر المجهول.
* * *
وقوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾
اختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وإذا البحار اشتعلت نارا وحَمِيت.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا الحسين بن حريث، قال: ثنا الفضل بن موسى، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: ثني أبيُّ بن كعب ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: قالت الجنّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار، فإذا هي تأجج نارا.
⁕ حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن داود، عن سعيد بن المسيب، قال: قال عليّ رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنم؟ فقال: البحر، فقال: ما أراه إلا صادقا ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ مخففة.
⁕ حدثني حوثرة بن محمد المنقري، قال: ثنا أبو أُسامة، قال: ثنا مجالد، قال: أخبرني شيخ من بجيلة عن ابن عباس، في قوله: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ قال: كوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر، فيبعث عليها ريحا دبورا، فتنفخه حتى يصير نارا، فذلك قوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ .
⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: إنها توقد يوم القيامة، زعموا ذلك التسجير في كلام العرب.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، في قوله: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ قال: بمنزلة التنور المسجور ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ مثله.
⁕ قال: ثنا مِهران، عن سفيان ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: أوقدت.
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضت.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: فاضت.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع مثله.
⁕ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الكلبي، في قوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: مُلئت، ألا ترى أنه قال: ﴿وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ﴾ .
⁕ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ يقول: فُجِّرت.
وقال آخرون: بل عُنِيَ بذلك أنه ذهب ماؤها.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة.
⁕ حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: غار ماؤها فذهب.
⁕ حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسين، في هذا الحرف ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: يبست.
⁕ حدثنا الحسين بن محمد، قال: ثنا يزيد بن زريع، قال: ثنا أبو رجاء، عن الحسن، بمثله.
⁕ حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: ﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ﴾ قال: يبست.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: مُلئت حتى فاضت، فانفجرت وسالت كما وصفها الله به في الموضع الآخر، فقال: " وَإذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ " والعرب تقول للنهر أو للرَّكيّ المملوء: ماء مسجور؛ ومنه قول لبيد:
فَتَوَسَّطا عُرْضَ السَّرِيّ وَصَدَّعا ... مَسْجُورَةً مُتَجاوِرًا قُلامُها [[الأثر ١٦٣ - سعيد: هو ابن أبي عروبة، وقد مضى أثر آخر عن قتادة بهذا الإسناد. ١١٩ وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور ١: ١٣، وفي نسبته هناك خطأ مطبعي: " ابن جريج " بدل " ابن جرير ". وكلام ابن جريج سيأتي ١٦٥ مرويًا عنه لا راويًا.]]
ويعني بالمسجورة: المملوءة ماء.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة ﴿سُجِّرَتْ﴾ بتشديد الجيم. وقرأ ذلك بعض قرّاء البصرة: بتخفيف الجيم.
والصواب من القول في ذلك: أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب.
* * *
وقوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾
اختلف أهل التأويل في تأويله، فقال بضعهم: أُلحِقَ كلُّ إنسان بشكله، وقُرِنَ بين الضُّرَباءِ والأمثال.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن سماك، عن النعمان بن بشير، عن عمر رضي الله عنه ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: هما الرجلان يعمَلان العمل الواحد يدخلان به الجنة، ويدخلان به النار.
⁕ حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: هما الرجلان يعملان العمل فيدخلان به الجنة، وقال: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ ، قال: ضرباءَهم.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن النعمان بن بشير، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان به الجنة أو النار.
⁕ حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك بن حرب أنه سمع النعمان بن بشير يقول: سمعت عمر بن الخطاب وهو يخطب، قال: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ثم قال: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: أزواج في الجنة، وأزواج في النار.
⁕ حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن النعمان بن بشير، قال: سُئل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن قول الله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة، وبين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار.
⁕ حدثني محمد بن خلف، قال: ثنا محمد بن الصباح الدولابي، عن الوليد، عن سماك، عن النعمان بن بشير، عن النبيّ ﷺ، والنعمان عن عمرو قال: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: الضرباء كلّ رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله، وذلك أن الله يقول: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ قال: هم الضرباء.
⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: ذلك حين يكون الناس أزواجا ثلاثة.
⁕ حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: ألحق كلّ امرئ بشيعته.
⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: الأمثال من الناس جُمِع بينهم.
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: لحق كلُّ إنسان بشيعته، اليهود باليهود، والنصارى بالنصارى.
⁕ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: يحشر المرء مع صاحب عمله.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع،: قال: يجيء المرء مع صاحب عمله.
وقال آخرون: بل عني بذلك أن الأرواح ردّت إلى الأجساد فزوّجت بها: أي جعلت لها زوجا.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، عن أبي عمرو، عن عكرِمة ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: الأرواح ترجع إلى الأجساد.
⁕ حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن داود، عن الشعبيّ أنه قال في هذه الآية ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: زوّجت الأجساد فردّت الأرواح في الأجساد.
⁕ حدثني عبيد بن أسباط بن محمد، قال: ثنا أبي، عن أبيه، عن عكرِمة ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: ردّت الأرواح في الأجساد.
⁕ حدثني الحسن بن زريق الطهوي، قال: ثنا أسباط، عن أبيه، عن عكرمة، مثله.
⁕ حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا داود، عن الشعبيّ، في قوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال: زوّجت الأرواح الأجساد.
وأولى التأويلين في ذلك بالصحة، الذي تأوّله عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعلة التي اعتلّ بها، وذلك قول الله تعالى ذكره: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ ، وقوله: ﴿احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ وذلك لا شكّ الأمثال والأشكال في الخير والشرّ، وكذلك قوله: ﴿وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ بالقرناء والأمثال في الخير والشرّ.
⁕ وحدثني مطر بن محمد الضبي، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية في قوله: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ قال: سيأتي أوّلها والناس ينظرون، وسيأتي آخرها إذا النفوس زوّجت.
* * *
وقوله: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ﴾
اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأه أبو الضحى مسلم بن صبيح ﴿وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ﴾ بمعنى: سألت الموءودة الوائدين: بأي ذنب قتلوها.
* ذكر الرواية بذلك:
⁕ حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، في قوله: ﴿وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ﴾ قال: طلبت بدمائها.
⁕ حدثنا سوّار بن عبد الله العنبري، قال: ثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، قال: قال أبو الضحى ﴿وَإذَا المَوْءُودَةُ سألَتْ﴾ قال: سألت قَتَلَتها.
ولو قرأ قارئ ممن قرأ ﴿سألَتْ بِأيّ ذَنْبٍ قُتلَتْ﴾ كان له وجه، وكان يكون معنى ذلك من قرأ ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ غير أنه إذا كان حكاية جاز فيه الوجهان، كما يقال: قال عبد الله: بأيّ ذنْبٍ ضُرب؛ كما قال عنترة:
الشَّاتِمَيْ عِرْضِي ولم أشْتُمْهُما ... والنَّاذِرَيْنِ إذَا لَقِيتُهُما دَمي [[الأثر ١٦٤ - أبو جعفر: هو الرازي التميمي، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم، وقال ابن عبد البر: "هو عندهم ثقة، عالم بتفسير القرآن". وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد ١١: ١٤٣ - ١٤٧. وهذا الأثر عن أبي العالية ذكره ابن كثير ١: ٤٥ والسيوطي ١: ١٣ بأطول مما هنا قليلا، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، وقال ابن كثير: "وهذا كلام غريب، يحتاج مثله إلى دليل صحيح". وهذا حق.]]
وذلك أنهما كانا يقولان: إذا لقينا عنترة لنقتلنَّه، فحكى عنترة قولهما في شعره؛ وكذلك قول الآخر:
رَجُلانِ مِنْ ضَبَّةَ أخْبَرَانا ... أنَّا رأيْنا رَجُلا عُرْيانا [[الأثر ١٦٥ - سبق الكلام على هذا الإسناد ١٤٤. وهذا الأثر ذكره ابن كثير ١: ٤٤ دون نسبة ولا إسناد.]]
بمعنى: أخبرانا أنهما، ولكنه جرى الكلام على مذهب الحكاية. وقرأ ذلك بعض عامة قرّاء الأمصار: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ بمعنى: سُئلت الموءودة بأيّ ذنب قُتلت، ومعنى قُتلت: قتلت غير أن ذلك ردّ إلى الخبر على وجه الحكاية على نحو القول الماضي قبل، وقد يتوجه معنى ذلك إلى أن يكون: وإذا الموءودة سألت قتلتها ووائديها، بأيّ ذنب قتلوها؟ ثم ردّ ذلك إلى ما لم يسمّ فاعله، فقيل: بأيّ ذنب قتلت.
وأولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ ذلك ﴿سُئِلَتْ﴾ بضم السين ﴿بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ على وجه الخبر، لإجماع الحجة من القراء عليه. والموءودة: المدفونة حية، وكذلك كانت العرب تفعل ببناتها؛ ومنه قول الفرزدق بن غالب:
وِمَّنا الذي أحْيا الوَئِيدَ وَغائِب ... وعَمْروٌ، ومنَّا حامِلونَ ودَافعُ [[في المطبوعة: "فاصل بين ذلك"، والذي في المخطوطة عربية جيدة.]]
يقال: وأده فهو يئده وأدا، ووأدة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ هي في بعض القراءات: ﴿سأَلَتْ بِأيّ ذَنْب قُتلَتْ﴾ لا بذنب، كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته، ويغذو كلبه، فعاب الله ذلك عليهم.
⁕ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى النبيّ ﷺ فقال: إني وأدت ثماني بنات في الجاهلية، قال: " فأعْتِقْ عَنْ كُلّ وَاحِدَةٍ بَدَنَةً".
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن الربيع بن خثيم ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ قال: كانت العرب من أفعل الناس لذلك.
⁕ حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي يعلى، عن ربيع بن خيثم بمثله.
⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ﴾ قال: البنات التي كانت طوائف العرب يقتلونهنّ، وقرأ: (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) .
* * *
وقوله: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾
يقول تعالى ذكره: وإذا صحف أعمال العباد نُشرت لهم بعد أن كانت مطوية على ما فيها مكتوب من الحسنات والسيئات.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ صحيفتك يا ابن آدم تملى ما فيها، ثم تُطوى، ثم تُنشر عليك يوم القيامة.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء المدينة ﴿نُشِرتْ﴾ بتخفيف الشين، وكذلك قرأ أيضا بعض الكوفيين، وقرأ ذلك بعض قرّاء مكة وعامة قرّاء الكوفة بتشديد الشين. واعتلّ من اعتل منهم لقراءته ذلك كذلك بقول الله: ﴿أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً﴾ ولم يقل منشورة، وإنما حسن التشديد فيه لأنه خبر عن جماعة، كما يقال: هذه كباش مُذبَّحَةٌ، ولو أخبر عن الواحد بذلك كانت مخففة، فقيل مذبوحةٌ، فكذلك قوله منشورة.
{"ayahs_start":5,"ayahs":["وَإِذَا ٱلۡوُحُوشُ حُشِرَتۡ","وَإِذَا ٱلۡبِحَارُ سُجِّرَتۡ","وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ","وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُىِٕلَتۡ","بِأَیِّ ذَنۢبࣲ قُتِلَتۡ","وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتۡ"],"ayah":"وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتۡ"}