القول في تأويل قوله تعالى: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا (٢٦) إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا (٢٧) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (٢٨) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (٢٩) فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا (٣٠) ﴾
.
يقول تعالى ذكره: هذا العقاب الذي عُوقِب به هؤلاء الكفار في الآخرة فعلَه بهم ربهم جزاء، يعني: ثوابا لهم على أفعالهم وأقوالهم الرديئة التي كانوا يعملونها في الدنيا، وهو مصدر من قول القائل: وافق هذا العقاب هذا العلم وِفاقا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ عن ابن عباس، قوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ يقول: وافَق أعمالهم.
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن أبي جعفر، عن الربيع ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ قال: بحسب أعمالهم.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، قال: ثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع، في قوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ قال: ثواب وافَق أعمالهم.
⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ قال: عملوا شرّا فجزوا شرّا، وعملوا حسنا فجزوا حسنا، ثم قرأ قول الله: ﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى﴾ .
⁕ حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ قال: جزاء وافق أعمال القوم.
⁕ حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ﴿جَزَاءً وِفَاقًا﴾ قال: وافق الجزاء العمل.
* * *
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾
يقول تعالى ذكره: إن هؤلاء الكفار كانوا في الدنيا لا يخافون محاسبة الله إياهم في الآخرة على نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، وسوء شكرهم له على ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ قال: لا يبالون فيصدّقون بالغيب.
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد عن قتادة، قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ أي: لا يخافون حسابا.
⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا﴾ قال: لا يؤمنون بالبعث ولا بالحساب، وكيف يرجو الحساب من لا يوقن أنه يحيا، ولا يوقن بالبعث، وقرأ قول الله: ﴿بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ... ﴾ إلى قوله: ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ . وقرأ ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ... ﴾ إلى قوله: ﴿جَدِيدٍ﴾ فقال بعضهم لبعض: ماله ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ الرجل مجنون حين يخبرنا بهذا.
* * *
وقوله: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا﴾
يقول تعالى ذكره: وكذّب هؤلاء الكفار بحُججِنا وأدلتنا تكذيبا. وقيل: ﴿كِذَّابًا﴾ ، ولم يقل تكذيبا تصديرا على فعله.
وكان بعض نحويِّي البصرة يقول: قيل ذلك لأن فعل منه على أربعة فأراد أن يجعله مثل باب أفعلت، ومصدر أفعلت إفعالا فقال: كذّابا، فجعله على عدد مصدره، قال: وعلى هذا القياس تقول: قاتل قتالا قال: وهو من كلام العرب. وقال بعض نحويِّي الكوفة: هذه لغة يمانية فصيحة، يقولون: كذّبت به كذّابا، وخَرَّقت القميص خِرَّاقا، وكلٌّ فَعَّلْت فمصدرها فِعَّال بلغتهم مشدّدة. قال: وقال لي أعرابي مرّة على المروة يستفتيني: ألحلق أحبّ إليك أم القِصَّار؟ قال: وأنشدني بعض بنِي كلاب:
لَقَدْ طالَ ما ثَبَّطَتْنِي عَنْ صَحَابَتِي ... وَعَنْ حِوَجٍ قِضَّاؤُها مِنْ شِفائِيَا [[في المطبوعة: "ما يرى"، والصواب من المخطوطة وابن كثير ١: ٤٢.]]
وأجمعت القرّاء على تشديد الذال من الكِذّاب في هذا الموضع. وكان الكسائي خاصة يخفِّف الثانية، وذلك في قوله: ﴿لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا كِذَّابًا﴾ ويقول: هو من قولهم: كاذبته كِذّابا ومكاذبة، ويشدّد هذه، ويقول قوله: ﴿كذّبوا﴾ يقيد الكذّاب بالمصدر.
* * *
وقوله: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا﴾
يقول تعالى ذكره: وكلّ شيء أحصيناه فكتبناه كتابا، كتبنا عدده ومبلغه وقدره، فلا يعزُب عنا علم شيء منه، ونصب كتابا، لأن في قوله: ﴿أحصَيْناهُ﴾ مصدر أثبتناه وكتبناه، كأنه قيل: وكلّ شيء كتبناه كتابا.
* * *
وقوله: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾
يقول جلّ ثناؤه: يقال لهؤلاء الكفار في جهنم إذا شربوا الحميم والغَسَّاق: ذوقوا أيها القوم من عذاب الله الذي كنتم به في الدنيا تكذّبون، فلن نزيدكم إلا عذابًا على العذاب الذي أنتم فيه، لا تخفيفا منه، ولا ترفُّها.
⁕ وقد حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبي عديّ، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد الله بن عمرو، قال: لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه: ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ قال: فهم في مزيد من العذاب أبدا.
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ ذُكر لنا أن عبد الله بن عمرو كان يقول: ما نزلت على أهل النار آية أشدّ منها ﴿فَذُوقُوا فَلَنْ نزيدَكُمْ إِلا عَذَابًا﴾ فهم في مزيد من الله أبدا.
{"ayahs_start":26,"ayahs":["جَزَاۤءࣰ وِفَاقًا","إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ لَا یَرۡجُونَ حِسَابࣰا","وَكَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا كِذَّابࣰا","وَكُلَّ شَیۡءٍ أَحۡصَیۡنَـٰهُ كِتَـٰبࣰا","فَذُوقُوا۟ فَلَن نَّزِیدَكُمۡ إِلَّا عَذَابًا"],"ayah":"جَزَاۤءࣰ وِفَاقًا"}