الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك. فقال بعضهم: معناه: سأنزع عنهم فهم الكتاب. * ذكر من قال ذلك: ١٥١٢٢- حدثنا أحمد بن منصور المروزي قال، حدثني محمد بن عبد الله بن بكر قال: سمعت ابن عيينة يقول في قول الله: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق"، قال يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي. [[(٢) الأثر: ١٥١٢٢ - ((أحمد بن منصور بن سيار الرمادى)) ، شيخ الطبري، مضى برقم: ١٠٢٦٠، ١٠٥٢١. و ((محمد بن عبد الله بن بكر بن سليمان الخزاعى الصنعانى الخلنجى)) ، صدوق. روى عنه النسائى، وأبو حاتم وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣/٢/٢٩٥.]] * * * قال أبو جعفر: وتأويل ابن عيينة هذا يدل على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدًا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا ﷺ، دون قوم موسى، لأن القرآن إنما أنزل على نبينا محمد ﷺ دون، موسى عليه السلام. * * * وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج. * ذكر من قال ذلك: ١٥١٢٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "سأصرف عن آياتي"، عن خلق السموات والأرض والآيات فيها، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، [[(١) في المطبوعة: ((على حقيقة ما امر به عباده)) ، فعل بها ما فعل بسوابقها. انظر ما سلف ص: ٦٨، تعليق: ٤، والمراجع هناك.]] وغير ذلك من فرائضه. والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه، فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، [[(٢) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .]] وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم، لأنه جلّ ثناؤه قال: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ ، فلا تبديل لكلمات الله. * * * القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (١٤٦) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و= "وتكبرهم فيها بغير الحق"، تجبرهم فيها، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله، والإذعان لأمره ونهيه، [[(١) انظر تفسير ((التكبر)) فيما سلف: ٧٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.]] وهم لله عبيدٌ يغذوهم بنعمته، [[(٢) في المطبوعة: ((يغدوهم)) بالدال المهملة، والصواب ما أثبت.]] ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيًّا، [[(٣) ((أراح عليه حقه)) ، رده عليه، يقول الشاعر:إلا تريحى علينا الحق طائعة ... دُونَ القُضَاةِ، فَقَاضِينَا إلَى حَكَمِ]] = "كل آية"، يقول: كل حجة لله على وحدانيته وربوبيته، وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره. [[(٤) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .]] = "لا يؤمنوا بها"، يقول: لا يصدقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة، ولكنهم يقولون: "هي سحر وكذب" = "وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا"، يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب، وصاروا إلى نعيم الأبد، لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقًا، جهلا منهم وحيرة [[(٥) انظر تفسير ((السبيل)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . = وتفسير ((الرشد)) فيما سلف ٣: ٤٨٢ / ٥: ٤١٦ / ٧: ٥٧٦.]] = "وإن يروا سبيل الغي"، يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلّوا وهلكوا. * * * وقد بينا معنى "الغي" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. [[(٦) انظر تفسير ((الغي)) فيما سلف ٥: ٤١٦ / ١٢: ٣٣٣.]] "يتخذوه سبيلا"، يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقًا، لصرف الله إياهم عن آياته، وطبعه على قلوبهم، فهم لا يفلحون ولا ينجحون= "ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين"، يقول تعالى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا، عقوبةً منا لهم على تكذيبهم بآياتنا = "وكانوا عنها غافلين"، يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقيقة ما أمرناهم به ونهيناهم عنه= "غافلين"، لا يتفكرون فيها، لاهين عنها، لا يعتبرون بها، فحق عليهم حينئذ قول ربنا فعَطِبوا. [[(١) انظر تفسير ((الغفلة)) فيما سلف ص: ٧٥، تعليق: ٤، والمراجع هناك.]] * * * واختلف القرأة في قراءة قوله: "الرشد". فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين: ﴿الرُّشْدِ﴾ ، بضم "الراء" وتسكين "الشين". * * * وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة وبعض المكيين: ﴿الرَّشَدِ﴾ ، بفتح "الراء" و"الشين". * * * ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه، وفيه إذا فتحتا جميعًا. فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه: الصلاح، كما قال الله: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ ، [سورة النساء: ٦] ، بمعنى: صلاحًا. وكذلك كان يقرؤه هو= ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه: الرشد في الدين، كما قال جل ثناؤه: ﴿تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ [سورة الكهف: ٦٦] ، [[(٢) قراءتنا وقراءة السبعة: ((رشدا)) (بضم الراء وسكون الشين) ، وقراءة أبي عمرو من السبعة كما ذكر أبو جعفر، ولذلك استدل بها أبو عمرو في هذا الموضع. ولم يذكر هذه القراءة أبو جعفر في تفسير الآية من سورة الكهف.]] بمعنى الاستقامة والصواب في الدين. * * * وكان الكسائي يقول: هما لغتان بمعنى واحد، مثل: "السُّقم" و"السَّقَم"، و"الحُزْن" و"الحَزَن" وكذلك "الرُّشْد" و"الرَّشَد". * * * قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضةٌ القراءة بهما في قرأة الأمصار، متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ بها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب