الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلما نسوا ما ذكروا به"، فلما تركوا العمل بما أمرناهم به على ألسن رسلنا، [[انظر تفسير"النسيان" فيما سلف ٢: ٩، ٤٧٣ - ٤٨٠/٥: ١٦٤/٦: ١٣٢، ١٣٣ - ١٣٥/١٠: ١٢٩. = وانظر تفسير"التذكير" فيما سلف ١٠: ١٣٠، تعليق ٢، والمراجع هناك.]] كالذي:- ١٣٢٢٦ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فلما نسوا ما ذكروا به"، يعني: تركوا ما ذكروا به. ١٣٢٢٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"نسوا ما ذكروا به"، قال: ما دعاهم الله إليه ورسله، أبوْه وردُّوه عليهم. * * * ="فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء"، يقول: بدلنا مكان البأساء الرخاء والسعة في العيش، ومكان الضراء الصحة والسلامة في الأبدان والأجسام، استدراجًا منَّا لهم، كالذي:- ١٣٢٢٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل =، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:" فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، قال: رخاء الدنيا ويُسْرها، على القرون الأولى. ١٣٢٢٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، قال: يعني الرخاء وسعة الرزق. ١٣٢٣٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط. عن السدي قوله:"فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، يقول: من الرزق. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:" فتحنا عليهم أبوابَ كل شيء"، وقد علمت أن بابَ الرحمة وباب التوبة [لم يفتحا لهم] ، لم تفتح لهم أبواب أخر غيرهما كثيرة؟ [[في المطبوعة والمخطوطة: "أن باب الرحمة وباب التوبة لم يفتح لهم وأبواب أخر غيره كثيرة" إلا أن المخطوطة ليس فيها إلا"أبواب أخر" بغير واو، ورجحت أنه سقط من الكلام ما أثبته، وأن صوابه ما صححت من ضمائره.]] قيل: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ من معناه، وإنما معنى ذلك: فتحنا عليهم، استدراجًا منا لهم، أبوابَ كل ما كنا سددنا عليهم بابه، عند أخذنا إياهم بالبأساء والضراء ليتضرعوا، إذ لم يتضرعوا وتركوا أمر الله تعالى ذكره، لأنّ آخر هذا الكلام مردودٌ على أوله. وذلك كما قال تعالى ذكره في موضع آخر من كتابه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، [سورة الأعراف: ٩٤-٩٥] ، ففتح الله على القوم الذين ذكر في هذه الآية [أنهم نسوا ما] ذكرهم، [[هذه الزيادة بين القوسين، يقتضيها السياق.]] بقوله:"فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، هو تبديله لهم مكانَ السيئة التي كانوا فيها في حال امتحانه إياهم، من ضيق العيش إلى الرخاء والسعة، ومن الضر في الأجسام إلى الصحة والعافية، وهو"فتح أبواب كل شيء" كان أغلق بابه عليهم، مما جرى ذكره قبل قوله:"فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، فردّ قوله:"فتحنا عليهم أبواب كل شيء"، عليه. * * * ويعني تعالى بقوله:"حتى إذا فرحوا بما أتوا"، يقول: حتى إذا فرح هؤلاء المكذّبون رسلهم بفتحنا عليهم أبوابَ السَّعة في المعيشة، والصحة في الأجسام، كالذي:- ١٣٢٣١ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا"، من الرزق. ١٣٢٣٢ - حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، سمعت عبد الرحمن بن مهدي يحدّث، عن حماد بن زيد قال: كان رجل يقول: رَحم الله رجلا تلا هذه الآية، ثم فكر فيها ماذا أريد بها:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة". ١٣٢٣٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا ابن أبي رجاء رجل من أهل الشعر، عن عبد الله بن المبارك، عن محمد بن النضر الحارثي في قوله:"أخذناهم بغتة"، قال: أُمهلوا عشرين سنة. [[الأثر: ١٣٢٣٣ -"ابن أبي رجاء"، لم أعرفه، وكان في المطبوعة: "من أهل الثغر"، وحذف"رجل"، وأثبت ما في المخطوطة. و"محمد بن النضر الحارثي"، أبو عبد الرحمن العابد، مترجم في الكبير١/١/٢٥٢، وابن أبي حاتم ٤/١/١١٠، وحلية الأولياء ٨: ٢١٧، وصفة الصفوة ٣: ٩٣. وهذا الخبر رواه أبو نعيم في الحلية ٨: ٢٢٠ من طريق أبي بكر بن مالك، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أحمد بن إبراهيم، عن محمد بن منبه، ابن أخت ابن المبارك، عن عبد الله بن المبارك. فأخشى أن يكون"ابن أبي رجاء" هو"محمد بن منبه" ابن أخت بن المبارك. وعسى أن توجد ترجمته"محمد بن منبه"، فيعرف منها ما نجهل، ويصحح ما في المخطوطة أهو"رجل من أهل الشعر"، أم"من أهل الثغر"، كما في المطبوعة.]] * * * ويعني تعالى ذكره بقوله:"أخذناهم بغتة"، أتيناهم بالعذاب فجأة، وهم غارُّون لا يشعرون أن ذلك كائن، ولا هو بهم حالٌّ، [[انظر تفسير"بغتة" فيما سلف ص: ٣٢٥.]] كما:- ١٣٢٣٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة"، قال: أعجبَ ما كانت إليهم، وأغَرَّها لهم. [[في المطبوعة: "وأعزها لهم" (بالعين والزاي) والصواب"أغرها"، من"الغرور" و"الغرة" (بالغين والراء المهملة) .]] ١٣٢٣٥ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي"أخذناهم بغتة"، يقول: أخذهم العذابُ بغتةً. ١٣٢٣٦ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أخذناهم بغتة"، قال: فجأة آمنين. * * * وأما قوله:"فإذا هم مبلسون"، فإنهم هالكون، منقطعة حججهم، نادمون على ما سلف منهم من تكذيبهم رسلَهم، كالذي:- ١٣٢٣٧- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا هم مبلسون"، قال: فإذا هم مهلكون، متغيِّر حالهم. ١٣٢٣٨ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شيخ، عن مجاهد:"فإذا هم مبلسون"، قال: الاكتئاب. [[في المطبوعة: "فإذا هم مبلسون قال: فإذا هم مهلكون"، لا أدري من أين جاء بهذا. والذي في المخطوطة هو ما أثبت، إلا أنه غير منقوط، فرجحت قراءته كما أثبته. وسيأتي أن معنى"الإبلاس"، الحزن والندم.]] ١٣٢٣٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"فإذا هم مبلسون"، قال:"المبلس" الذي قد نزل به الشرّ الذي لا يدفعه. والمبلس أشد من المستكين، وقرأ: فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ، [سورة المؤمنون: ٧٦] . وكان أول مرة فيه معاتبة وبقيّة. [[في المطبوعة: "معاتبة وتقية"، ولا معنى لذلك هنا، وفي المخطوطة: "ولقية" وصواب قراءتها ما أثبت. و"البقية"، الإبقاء عليهم.]] وقرأ قول الله:" أخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون" ="فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا"، حتى بلغ"وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون"، ثم جاء أمرٌ ليس فيه بقية. [[في المخطوطة والمطبوعة هنا في الموضعين: تقية"، وهو خطأ، انظر التعليق السالف.]] وقرأ:"حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"، فجاء أمر ليس فيه بقية. وكان الأوّل، لو أنهم تضرعوا كُشف عنهم. ١٣٢٤٠ - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن أبي شريح ضبارة بن مالك، عن أبي الصلت، عن حرملة أبي عبد الرحمن، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: إذا رأيت الله يعطي عبدَه في دنياه، إنما هو استدراج. ثم تلا هذه الآية:"فلما نسوا ما ذكِّروا به" إلى قوله:" والحمد لله رب العالمين". [[الأثران: ١٣٢٤٠، ١٣٢٤١ -"سعيد بن عمرو السكوني"، مضى برقم: ٥٥٦٣، ٦٥٢١. و"بقية بن الوليد الحمصي"، مضى مرارًا، أولها رقم: ١٥٢، وآخرها: ٩٢٢٤. وهو ثقة، ولكنهم نعوا عليه التدليس. و"ضبارة بن مالك" نسب إلى جده هو"ضبارة بن عبد الله بن مالك بن أبي السليك الحضري الألهاني"، "أبو شريح الحمصي"، ويقال أيضًا"ضبارة بن أبي السليك"، ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يعتبر حديثه من رواية الثقات عنه". وذكره ابن عدي في الكامل وساق له ستة أحاديث مناكير. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/٢/٣٤٣، وابن أبي حاتم ٢/١/٤٧١. و"أبو الصلت"، مذكور في ترجمة"ضبارة" في التهذيب، وموصوف بأنه"الشامي"، ولم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من كتب التراجم. وأما "حرملة، أبو عبد الرحمن"، فهذا مشكل، فإن"حرملة بن عمران بن قراد التجيبي المصري"، كنيته"أبو حفص"، لم أجد له كنية غيرها. ولا أستخير أن يكون ذلك خطأ من ناسخ، فأخشى أن تكون"أبو عبد الرحمن"، كنية أخرى له. وهو ثقة، كان من أولى الألباب. مترجم في التهذيب، والكبير ٢/١/٦٤، وابن أبي حاتم ١/٢/٢٧٣.و"عقبة بن مسلم التجيبي المصري"، إمام المسجد العتيق، مصري تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. و"عقبة بن عامر الجهني"، قديم الهجرة والسابقة والصحبة. وكان عالمًا فقهيًا فصيح اللسان، شاعرًا، كاتبًا، وهو أحد من جمع القرآن. وهذا الخبر سيرويه أبو جعفر بعد من طريق ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم، ورواه أحمد في مسنده ٤: ١٤٥، من طريق يحيى بن غيلان، عن رشدين بن سعد، عن حرملة بن عمران، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر، بمثله. وخرجه الهيثمي في مجمع الزاوئد ٧: ٢٠، ونسبه لأحمد والطبراني، ولم يذكر في إسناده شيئًا من صحة أو ضعف. وذكره ابن كثير في تفسيره ٣: ٣١١ من رواية أحمد، وأشار إلى طريق ابن جرير، وابن أبي حاتم. وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ١٢، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب.]] ١٣٢٤١- وحدثت بهذا الحديث عن محمد بن حرب، عن ابن لهيعة، عن عقبة بن مسلم، عن عقبة بن عامر: أن النبي ﷺ قال: وإذا رأيت الله تعالى ذكره يعطي العبادَ ما يسألون على معاصيهم إياه، فإنما ذلك استدراج منه لهم! ثم تلا"فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء" الآية. * * * وأصل"الإبلاس" في كلام العرب، عند بعضهم: الحزن على الشيء والندم عليه = وعند بعضهم: انقطاع الحجة، والسكوت عند انقطاع الحجة = وعند بعضهم: الخشوع = وقالوا: هو المخذول المتروك، ومنه قول العجاج: يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا ؟ ... قَالَ: نَعَمْ! أَعْرِفُه! وَأَبْلَسَا [[مضى البيت وتخريجه وتفسيره فيما سلف ١: ٥٠٩، ولم أشر هناك إلى مجيئه في التفسير في هذا الموضع ثم في ٢١: ١٨ (بولاق) ، وأزيد أنه في مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٩٢، ومعاني القرآن للفراء ١: ٣٣٥.]] فتأويل قوله:"وأبلسا"، عند الذين زعموا أن"الإبلاس"، انقطاع الحجة والسكوت عنده، بمعنى: أنه لم يُحِرْ جوابًا. [[هو الفراء في معاني القرآن ١: ٣٣٥.]] وتأوَّله الآخرون بمعنى الخشوع، وترك أهله إياه مقيمًا بمكانه. والآخرون بمعنى الحزن والندم. يقال منه:"أبلس الرجل إبلاسًا"، ومنه قيل: لإبليس"إبليس". [[انظر ما قاله أبو جعفر في تفسير"إبليس" فيما سلف ١: ٥٠٩، ٥١٠.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب