الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء العادلين بربِّهم الأوثانَ والأصنامَ من قومك، يا محمد ="من يستمع إليك"، يقول: من يستمع القرآن منك، ويستمع ما تدعوه إليه من توحيد ربك، وأمره ونهيه، ولا يفقه ما تقول ولا يُوعِيه قلبَه، ولا يتدبره، ولا يصغي له سمعه، ليتفقهه فيفهم حجج الله عليه في تنزيله الذي أنزله عليك، إنما يسمع صوتك وقراءَتك وكلامك، ولا يعقل عنك ما تقول، لأن الله قد جعل على قلبه"أكنّة". * * * = وهي جمع"كنان"، وهو الغطاء، مثل:"سِنان"،"وأسنة". يقال منه:"أكننت الشيءَ في نفسي"، بالألف،"وكننت الشيء"، إذا غطيته، [[انظر ما سلف ٥: ١٠٢، ١٠٣.]] = ومن ذلك: بَيْضٌ مَكْنُونٌ، [سورة الصافات: ٤٩] ، وهو الغطاء، [[الأجود أن يقال: "وهو المغطى"، وكأنه كان كذلك، وكأن الذي في المطبوعة والمخطوطة تحريف. ولكن ربما عبر القدماء بمثل هذا التعبير، ولذلك تركته على حاله. وقد قال الطبري في ج ٥: ١٠٢، وذكر الآية: "أي: مخبوء".]] ومنه قول الشاعر: [[هو عمر بن أبي ربيعة.]] تَحْتَ عَيْنٍ، كِنَانُنَا ... ظِلُّ بُرْدٍ مُرَحَّلُ [[ليس في ديوانه، ولكنه من قصيدته التي في ديوانه: ١٢٥ - ١٢٦، وهو في الأغاني ١: ١٨٤، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٤٦، ١٨٨، واللسان (كنن) ، وغيرها. من أبياته التي أولها: هَاجَ ذَا القَلَبَ مَنْزِلُ ... دَارِسُ الآيِ مُحْوِلُ وقبله في رواية أبي الفرج في أغانيه. أرْسَلَتْ تَسْتَحِثّى وَتُفَدِّي وتَعْذُل ... أَيُّنَا بَاتَ لَيْلَةً بَيْنَ غُصْنَيْنِ يُوبَلُ وروايته للبيت: تَحْتَ عَيْنٍ، يُكِنُّنَا ... بُرْدُ عَصْبٍ مُهَلْهَل ورواية ابن بري، وصحح رواية أبي عبيدة وأبي جعفر: تَحْتَ عَيْنٍ، كِنَانُنَا ... بُرْدُ عَصْبٍ مُرَحَّلُ "العين" في البيت السحاب. و"المرحل من الثياب، الذي عليه تصاوير الرحال.]] يعني: غطاؤُهم الذي يكنُهم. [[انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٨٨، وهو شبيه بنص كلامه.]] * * * ="وفي آذانهم وقرًا"، يقول تعالى ذكره: وجعل في آذانهم ثِقلا وصممًا عن فهم ما تتلو عليهم، والإصغاء لما تدعوهم إليه. * * * والعرب تفتح"الواو" من"الوَقْر" في الأذن، وهو الثقل فيها= وتكسرها في الحمل فتقول:"هو وِقْرُ الدابة". ويقال من الحمل:"أوقرْتُ الدَّابة فهي مُوقَرة" = ومن السمع:"وَقَرْتُ سمعه فهو موقور"، ومنه قول الشاعر: [[لم أهتد إلى قائله، وإن كنت أذكر أني قرأت هذا الشعر في مكان.]] وَلِي هَامَةٌ قَدْ وَقَّر الضَّرْبُ سَمْعَهَا وقد ذكر سماعًا منهم:"وُقِرَتْ أذنه"، إذا ثقلت"فهي موقورة" ="وأوقرتِ النخلةُ، فهي مُوقِر" كما قيل:"امرأة طامث، وحائض"، لأنه لا حظّ فيه للمذكر. فإذا أريد أن الله أوقرها، قيل"مُوقَرةٌ". * * * وقال تعالى ذكره:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه"، بمعنى: أن لا يفقهوه، كما قال: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [سورة النساء: ١٧٦] ، بمعنى: أن لا تضلوا، [[انظر ما سلف ٩: ٤٤٥، ٤٤٦.]] لأن"الكنّ" إنما جعل على القلب، لئلا يفقهه، لا ليفقهه. [[انظر تفسير"فقه" فيما سلف ٨: ٥٥٧.]] * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٣١٥٢ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا"، قال: يسمعونه بآذانهم ولا يعون منه شيئًا، كمثل البهيمة التي تسمع النداء، ولا تدري ما يُقَال لها. ١٣١٥٣ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرًا"، أما"أكنة"، فالغطاءُ أكنّ قلوبهم، لا يفقهون الحق ="وفي آذانهم وقرًا"، قال: صمم. ١٣١٥٤ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ومنهم من يستمع إليك"، قال: قريش. ١٣١٥٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. * * * القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (٢٥) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام، الذين جعلت على قلوبهم أكنة أن يفقهوا عنك ما يسمعون منك ="كل آية"، يقول: كل حجة وعلامة تدلُّ أهل الحجَا والفهم على توحيد الله وصدق قولك وحقيقة نبوتك [[انظر تفسير"آية" فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .]] ="لا يؤمنوا بها"، يقول: لا يصدّقون بها، ولا يقرّون بأنها دالّة على ما هي عليه دالة ="حتى إذا جاؤوك يجادلونك"، يقول: حتى إذا صاروا إليك بعد معاينتهم الآيات الدالة على حقيقة ما جئتهم به ="يجادلونك"، يقول: يخاصمونك [[انظر تفسير"جادل" فيما سلف ٤: ١٤١/٩: ١٩٠، ١٩٣.]] ="يقول الذين كفروا"، يعنى بذلك: الذين جحدوا آيات الله وأنكروا حقيقتها، يقولون لنبيِّ الله ﷺ إذا سمعوا حجج الله التي احتجَّ بها عليهم، وبيانَه الذي بيَّنه لهم ="إن هذا إلا أساطير الأوّلين"، أي: ما هذا إلا أساطير الأوّلين. * * * و"الأساطير" جمع"إسْطارة" و"أُسطُورة" مثل"أفكوهة" و"أضحوكة" = وجائز أن يكون الواحد"أسطارًا" مثل"أبيات"، و"أبابيت"، و"أقوال وأقاويل"، [[يعني بقوله: "أسطارًا"، جمع"سطر"، كما هو بين.]] من قول الله تعالى ذكره: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ، [سورة الطور: ٢] . من:"سَطَرَ يَسْطُرُ سَطْرا". * * * فإذ كان من هذا: فإن تأويله: ما هذا إلا ما كتبه الأوَّلون. * * * وقد ذكر عن ابن عباس وغيره أنهم كانوا يتأوّلونه بهذا التأويل، ويقولون: معناه: إنْ هذا إلا أحاديث الأوّلين. ١٣١٥٦ - حدثني بذلك المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. ١٣١٥٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، أمّا"أساطير الأوّلين"، فأسَاجيع الأولين. [["الأساجيع" جمع"أسجوعة": يراد به الكهان على هيئة كلامهم.]] * * * وكان بعض أهل العلم = وهو أبو عبيدة معمر بن المثنى = بكلام العرب يقول:"الإسطارةُ" لغةٌ، ومجازُها مجازُ الترهات. [[في المطبوعة: "لغة، الخرافات والترهات" غير ما في المخطوطة، وهو نص أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ١٨٩. وهذا من سيئ العبث بالكتب!]] * * * وكان الأخفش يقول: قال بعضهم: واحده"أسطورة". وقال بعضهم:"إسطارة". قال: ولا أراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو"العباديد" [[في المطبوعة: "عباييد"، وهو صواب، إلا أني أثبت ما في المخطوطة. يقال: "جاء القوم عباديد، وعبابيد"، أي متفرقون.]] و"المَذَاكير"، و"الأبابيل". [["المذاكير"، يقال في الفرد أيضًا. وفي الخبر أن عبدًا أبصر جارية لسيده، فجب السيد مذاكيره = فاستعمله لرجل واحد، وأراد به شيئه، وما تعلق به. و"أبابيل": جماعات من هنا، وجماعات من هنا.]] قال: وقال بعضهم: واحد"الأبابيل"،"إبِّيل"، وقال بعضهم:"إبَّوْل" مثل"عِجَّوْل"، [[يقال: "عجل" و"عجول" (بكسر العين، وتشديد الجيم المفتوحة، وسكون الواو) : ولد البقرة، وجمعه"عجاجيل".]] ولم أجد العرب تعرف له واحدًا، وإنما هو مثل"عباديد" لا واحد لها. وأما"الشَّماطيط"، فإنهم يزعمون أن واحده"شمطاط". [["شماميط": قطع متفرقة، يقال: "ذهب القوم شماميط": إذا تفرقوا أرسالا.]] قال: وكل هذه لها واحد، إلا أنه لم يستعمل ولم يتكلم به، لأن هذا المثال لا يكون إلا جميعًا. [[في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.]] قال: وسمعت العرب الفصحاء تقول:"أرسل خيله أبابيل"، تريد جماعات، فلا تتكلم بها بواحدة. [[في المطبوعة: "فلا تتكلم بها موحدة"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد كرهت عبث الناشر بنص أبي جعفر!!]] وكانت مجادلتهم رسولَ الله ﷺ التي ذكرها الله في هذه الآية، فيما ذُكِر، ما:- ١٣١٥٨ - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حتى إذا جاءوك يجادلونك" الآية، قال: هم المشركون، يجادلون المسلمين في الذَّبيحة، يقولون:"أما ما ذبحتم وقتلتم فتأكلون، وأما ما قتل الله فلا تأكلون! وأنتم تتَّبعون أمرَ الله تعالى ذكره"! [[عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما نصه: "يتلوه القولُ في تأويل قوله ﴿وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَونَ عَنْهُ وَإنْ يُهْلِكُونَ﴾ ﴿إلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ وَصَلَّى اللهُ على مُحَمدٍ النبيِّ وَعَلى آلِهِ وَسَلّم كثيرًا الحمدُ للهِ ربِّ العالَمينِ" ثم يتلوه ما نصه: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيمِ رَبِّ يَسِّرْ".رْ"]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب