الباحث القرآني
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا:"إنا نَصَارى" = الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم أنك تجدهم أقرب الناس مودة للذين آمنوا= [[سياق الكلام: "إذا سمع هؤلاء ... ما أنزل إليك من الكتاب يتلى"، وما بين الفعل ومفعوله فصل طويل.]] ما أنزل إليك من الكتاب يُتْلى="ترى أعينهم تفيض من الدمع".
* * *
و"فيض العين من الدمع"، امتلاؤها منه، ثم سيلانه منها، كفيض النهر من الماء، وفيض الإناء، وذلك سيلانه عن شدة امتلائه، ومنه قول الأعشى:
ففَاضَتْ دُمُوعِي، فَظَلَّ الشُّئُونُ: ... إمَّا وَكِيفًا، وَإِمَّا انْحِدَارَا [[ديوانه: ٣٥. من قصيدته في قيس بن معد يكرب الكندي، وقبل البيت، وهو أولها: أَأَزْمَعْتَ مِنْ آلِ لَيْلَى ابْتِكَارَا ... وَشَطَّتْ عَلَى ذِي هَوًى أن تُزَارَا
وَبَانَتْ بِهَا غَرَبَاتُ النَّوَى ... وَبُدِّلْتُ شَوْقًا بِهَا وَادِّكَارَا
فَفَاضَتْ دْمُوعِي........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كَمَا أَسْلَمَ السِّلْكُ مِنْ نَظْمِهِ ... لآلِئَ مُنْحَدِرَاتٍ صِغَارَا
وكان البيت في المخطوطة والمطبوعة: "ففاضت دموعي فطل الشئون داما حدارًا"، وهو خطأ محض."والشئون" جمع"شأن"، وهو مجرى الدمع إلى العين، وهي عروقها. ورواية الديوان: "كفيض الغروب"، و"الغروب" جمع"غرب" (بفتح فسكون) ، وهو الدلو الكبير الذي يستقى به على السانية. وقوله: "فظل" بالظاء المعجمة، لا بالطاء. وقد أفسد وأخطأ من جعله بالطاء المهملة، وشرحه على ذلك. وهو غث جدًا. و"الوكيف": أن يسيل الدمع قليلا قليلا، إنما يقطر قطرًا."وكف الدمع يكف وكفًا ووكيفًا". وأما "انحدار الدمع"، فهو سيلانه متتابعا، كما ينصب الماء من حدور.]]
وقوله:"مما عرفوا من الحق"، يقول: فيض دموعهم، لمعرفتهم بأنّ الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقٌّ، كما:-
١٢٣٢٥ - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ قال: بعث النجاشي إلى النبيّ ﷺ اثنى عشر رجلا يسألونه ويأتونه بخبره، فقرأ عليهم رسول الله ﷺ القرآن، فبكوا. وكان منهم سبعة رهبانٍ وخمسة قسيسين [[في المطبوعة: "وخمسة قسيسون"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.]] = أو: خمسة رهبان، وسبعة قسيسين [[في المخطوطة: "أو سبعة" دون ذكر"قسيسين"، ولكنها زيادة لا غنى عنها. وصوابها أيضا"وسبعة" بالواو.]] = فأنزل الله فيهم:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع"، إلى آخر الآية.
١٢٣٢٦ - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمر بن علي بن مقدّم قال، سمعت هشام بن عروة يحدث، عن أبيه، عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت في النجاشي وأصحابه:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع". [[الأثر: ١٢٣٢٦-"عمر بن علي بن مقدم"، هو: "عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي". ثقة، ولكنه كان يدلس. قال ابن سعد: "كان ثقة، وكان يدلس تدليسًا شديدا، يقول: سمعت، وحدثنا، ثم يسكت فيقول: هشام بن عروة، والأعمش. وقال: كان رجلا صالحًا، ولم يكونوا ينقمون عليه غير التدليس، وأما غير ذلك فلا، ولم أكن أقبل منه حتى يقول حدثنا". مترجم في التهذيب.]]
١٢٣٢٧ - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:"ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق"، قال: ذلك في النجاشي.
١٢٣٢٨ - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كانوا يُرَوْن أن هذه الآية أنزلت في النجاشي:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع".
١٢٣٢٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا يونس بن بكير قال، قال ابن إسحاق: سألت الزهري عن الآيات:"ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع" الآية، وقوله: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [سورة الفرقان: ٦٣] . قال: ما زلت أسمع علماءنا يقولون: نزلت في النجاشي وأصحابه. [[الأثر: ١٢٣٢٩- سيرة ابن هشام ٢: ٣٣، ولكن ليس فيه ذكر آية سورة الفرقان التي ذكرها أبو جعفر في هذه الرواية عن ابن إسحق. ثم إن أبا جعفر لم يذكر هذا الخبر في تفسير الآية من سورة الفرقان ١٩: ٢١، ٢٢ (بولاق) ، ولا أشار إلى أنها نزلت في أحد، لا النساشي وأصحابه ولا غيرهم.]]
* * *
وأما قوله:"يقولون"، فإنه لو كان بلفظ اسم، كان نصبًا على الحال، لأن معنى الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، قائلين:"ربنا آمنا".
* * *
ويعني بقوله تعالى ذكره:"يقولون ربنا آمنا"، أنهم يقولون: يا ربنا، صدَّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد ﷺ من كتابك، وأقررنا به أنه من عندك، وأنه الحق لا شك فيه.
* * *
وأما قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، فإنه روي عن ابن عباس وغيره في تأويله، ما:-
١٢٣٣٠ - حدثنا به هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وابن نمير= جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"اكتبنا مع
الشاهدين"، قال: أمة محمد ﷺ.
١٢٣٣١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فاكتبنا مع الشاهدين"، مع أمّة محمد ﷺ.
١٢٣٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يعنون بـ"الشاهدين"، محمدًا ﷺ وأمَّته.
١٢٣٣٣ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، قال: محمد ﷺ وأمته، إنهم شهدوا أنه قد بلَّغ، وشهدوا أن الرسل قد بلغت.
١٢٣٣٤ - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا يحيى بن زكريا قال، حدثني إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز= غير أنه قال: وشهدوا للرسل أنهم قد بلَّغوا. [[الآثار: ١٢٣٣٠- ١٢٣٣٤- رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣١٣، من طريق يحيى بن آدم عن إسرائيل، بمثله، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ١٨، وقال: "رواه الطبراني عن شيخه عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف"، ولكن هذه أسانيد صحاح، رواها الطبري وغيره.]]
* * *
قال أبو جعفر: فكأنّ متأوِّل هذا التأويل، قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [سورة البقرة: ١٤٣] . فذهب ابن عباس إلى أن"الشاهدين"، هم"الشهداء" في قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"، وهم أمة محمد ﷺ. [[انظر ما سلف من تفسير آية سورة البقرة ٣: ١٤١- ١٥٥.]]
* * *
وإذا كان التأويل ذلك، كان معنى الكلام:"يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة، أنهم قد بلغوا أممهم رسالاتك.
* * *
ولو قال قائل: معنى ذلك:"فاكتبتا مع الشاهدين"، الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتب حق= كان صوابًا. لأن ذلك خاتمة قوله:"وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين"، وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم لما سمعوا من كتاب الله، فتكون مسألتهم أيضا اللهَ أن يجعلهم ممن صحَّت عنده شهادتهم بذلك، ويُلْحقهم في الثوابِ والجزاء منازلَهُم.
ومعنى"الكتاب،" في هذا الموضع: الجَعْل. [[انظر تفسير"الكتاب" فيما سلف من فهارس اللغة، (كتب) .]]
* * *
يقول: فاجعلنا مع الشاهدين، وأثبتنا معهم في عِدَادهم.
{"ayah":"وَإِذَا سَمِعُوا۟ مَاۤ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰۤ أَعۡیُنَهُمۡ تَفِیضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُوا۟ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق