الباحث القرآني

القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله تعالى ذكره لنبيه محمدٍ ﷺ. يقول تعالى ذكره: أنزلنا إليك، يا محمد،"الكتاب"، وهو القرآن الذى أنزله عليه= ويعني بقوله:"بالحق"، بالصدق ولا كذب فيه، ولا شك أنه من عند الله [[انظر تفسير"الحق" فيما سلف ٧: ٩٧/٩: ٢٢٧.]] ="مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: أنزلناه بتصديق ما قبله من كتب الله التى أنزلها إلى أنبيائه= "ومهيمنًا عليه"، يقول: أنزلنا الكتاب الذي أنزلناه إليك، يا محمد، مصدّقًا للكتب قبله، وشهيدًا عليها أنها حق من عند الله، أمينًا عليها، حافظا لها. * * * وأصل"الهيمنة"، الحفظ والارتقاب. يقال، إذا رَقَب الرجل الشيء وحفظه وشَهِده:"قد هيمن فلان عليه، فهو يُهَيمن هيمنة، وهو عليه مهيمن". * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، إلا أنهم اختلفت عباراتهم عنه. فقال بعضهم: معناه: شهيدًا. * ذكر من قال ذلك: ١٢١٠٣م - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"، يقول: شهيدًا. ١٢١٠٤ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومهيمنًا عليه"، قال: شهيدًا عليه. ١٢١٠٥ - حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب"، يقول: الكتب التي خلت قبله="ومهيمنًا عليه"، أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله. * * * ١٢١٠٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، مؤتمنًا على القرآن، وشاهدًا ومصدِّقًا= وقال ابن جريج: وقال: آخرون [[في المطبوعة: "وقال ابن جريج وآخرون"، والصواب من المخطوطة.]] القرآن أمين على الكتب فيما إذا أخبرنا أهل الكتاب في كتابهم بأمرٍ، إن كان في القرآن فصدقوا، وإلا فكذبوا. * * * وقال بعضهم: معناه: أمينٌ عليه. * ذكر من قال ذلك: ١٢١٠٧ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا وكيع= جميعًا، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه. ١٢١٠٨ - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه. ١٢١٠٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. ١٢١١٠ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، بإسناده، عن ابن عباس، مثله. ١٢١١١ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. ١٢١١٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. ١٢١١٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. [[الآثار ١٢١٠٧- ١٢١١٣-"التميمي" و"رجل من تميم"، هو"أربدة التميمي"، يروي التفسير عن ابن عباس، رواه عنه أبو إسحق السبيعي، مضى برقم: ١٩٢٨، ١٩٢٩، ولكن كتب أخي السيد أحمد على الأثر رقم: ٢٠٩٥، ثم كتبت أنا على الآثار من رقم: ٣٩٨٦- ٣٩٨٩، أنه رجل مجهول من تميم، ولكن الصواب أنه معروف وهو"أربدة التميمي"، وهو تابعي ثقة. ثم انظر الآثار الآتية من رقم: ١٢١١٦- ١٢١١٨.]] ١٢١١٤ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: والمهيمن الأمين: قال: القرآن أمين على كلِّ كتاب قبله. ١٢١١٥ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب"، وهو القرآن، شاهد على التوراة والإنجيل، مصدقًا لهما="ومهيمنًا عليه"، يعني: أمينًا عليه، يحكم على ما كان قبله من الكتب. ١٢١١٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه. ١٢١١٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس:"ومهيمنًا عليه"، قال: مؤتمنًا عليه. ١٢١١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا يحيى الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. [[الآثار: ١٢١١٦- ١٢١١٨-"التميمي"، و"رجل من بني تميم"، هو"أربدة التميمي"، انظر التعليق السالف.]] ١٢١١٩ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن سفيان وإسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير:"ومهيمنًا عليه" قال: مؤتمنًا على ما قبله من الكتب. ١٢١٢٠ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سألت الحسين عن قوله:"وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه"، قال: مصدقًا لهذه الكتب، وأمينا عليها. وسئل عنها عكرمة وأنا أسمع فقال: مؤتمنًا عليه. * * * وقال آخرون: معنى"المهيمن"، المصدق. * ذكر من قال ذلك: ١٢١٢١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومهيمنًا عليه"، قال: مصدِّقًا عليه. كل شيء أنزله الله من توراة أو إنجيل أو زَبُورٍ، فالقرآن مصدِّق على ذلك. وكل شيء ذكر الله في القرآن، فهو مصدِّقٌ عليها وعلى ما حُدِّث عنها أنه حق. * * * وقال آخرون: عنى بقوله:"مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه"، نبي الله ﷺ. * ذكر من قال ذلك: ١٢١٢٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، محمد ﷺ، مؤتمنٌ على القرآن. ١٢١٢٣ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومهيمنًا عليه"، قال: محمد ﷺ، مؤتمنٌ على القرآن. * * * قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوّله مجاهد: وأنزلنا الكتاب مصدقًا الكتبَ قبله إليك، مهيمنا عليه= فيكون قوله:"مصدقًا" حالا من"الكتاب" وبعضًا منه، ويكون"التصديق" من صفة"الكتاب"، و"المهيمن" حالا من"الكاف" التي في"إليك"، وهي كناية عن ذكر اسم النبي ﷺ، و"الهاء" في قوله:"عليه"، عائدة على الكتاب. * * * وهذا التأويل بعيد من المفهوم في كلام العرب، بل هو خطأ. وذلك أنّ"المهيمن" عطفٌ على"المصدق"، فلا يكون إلا من صفة ما كان"المصدِّق" صفةً له. ولو كان معنى الكلام ما روي عن مجاهد، لقيل:"وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب مهيمنًا عليه" [[في المطبوعة والمخطوطة: "ومهيمنًا" بالواو، والصواب إسقاطها، لأنه أراد إسقاط العطف، إذ كان"مهيمنًا" حالا من"الكاف" في"إليك"، غير معطوف على شيء قبله، كما ترى في بقية كلامه.]] = لأنه لم يتقدم من صفة"الكاف" التي في"إليك" بعدَها شيءٌ يكون"مهيمنًا عليه" عطفًا عليه، [[في المطبوعة: "لأنه متقدم من صفة الكاف التي في إليك وليس بعدها شئ ... "، فزاد"وليس"، وليست في المخطوطة، وجعل"يتقدم""متقدم"، إذ كان في المخطوطة خطأ، فأساء الفهم، وأساء التصرف!! كان في المخطوطة كما أثبت إلا أنه كتب"لأنه يتقدم من صفة الكاف" سقط من الناسخ"لم"، فأثبتها، واستقام الكلام على وجهه.]] وإنما عطف به على"المصدق"، لأنه من صفة"الكتاب" الذي من صفته"المصدق". * * * فإن ظن ظان أن"المصدق"= على قول مجاهد وتأويلهِ هذا= من صفة"الكاف" التي في"إليك"، فإن قوله:"لما بين يديه من الكتاب"، يبطل أن يكون تأويل ذلك كذلك، وأن يكون"المصدق" من صفة"الكاف" التي في"إليك". لأن"الهاء" في قوله:"بين يديه"، كناية اسم غير المخاطب، وهو النبي ﷺ في قوله"إليك". [[في المخطوطة: "والنبي صلى الله عليه ... " بإسقاط"هو"، والصواب ما في المطبوعة.]] ولو كان"المصدق" من صفة"الكاف"، لكان الكلام: وأنزلنا إليك الكتاب مصدِّقًا لما بين يديك من الكتاب، [[في المخطوطة: "لما بين يديه"، والصواب ما في المطبوعة.]] ومهيمنا عليه= فيكون معنى الكلام حينئذٍ كذلك. [[في المخطوطة: "فيكون معنى الكلام حينئذ يكون كذلك"، بزيادة"يكون"، والصواب ما في المخطوطة، إلا أن يكون الناسخ أسقط من الكلام شيئًا. ومع ذلك، فالذي في المطبوعة مستقيم.]] * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾ قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله تعالى ذكره لنبيه محمد ﷺ أن يحكم بين المحتكمين إليه من أهل الكتاب وسائر أهلِ الملل بكتابه الذي أنزله إليه، وهو القرآن الذي خصّه بشريعته. يقول تعالى ذكره: احكم، يا محمد، بين أهل الكتاب والمشركين بما أُنزل إليك من كتابي وأحكامي في كل ما احتمكوا فيه إليك، من الحدود والجُرُوح والقَوَد والنفوس، فارجم الزاني المحصَن، واقتل النفسَ القاتلةَ بالنفس المقتولة ظلمًا، وافقأ العين بالعين، واجدع الأنف بالأنف، فإني أنزلت إليك القرآن مصدِّقًا في ذلك ما بين يديه من الكتب، ومهيمنًا عليه رقيبًا، يقضي على ما قبله من سائر الكتب قبلَه، ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود= الذين يقولون: إن أوتيتم الجلدَ في الزاني المحصن دون الرجم، وقتلَ الوضيع بالشريف إذا قتله، وتركَ قتل الشريف بالوضيع إذا قتله، فخذوه، وإن لم تؤتوه فاحذروا [[السياق: "ولا تتبع أهواء هؤلاء اليهود ... عن الذي جاءك من عند الله ... ".]] = عن الذي جاءك من عند الله من الحق، وهو كتاب الله الذي أنزله إليك. يقول له: اعمل بكتابي الذي أنزلته إليك إذا احتكموا إليك فاخترتَ الحكم عليهم، [[في المطبوعة: "فاختر الحكم"، والصواب ما في المخطوطة، لأن رسول الله ﷺ مخير في الحكم بينهم وفي ترك الحكم، كما سلف ص: ٣٣٣.]] ولا تتركنَّ العمل بذلك اتباعًا منك أهواءَهم، وإيثارًا لها على الحق الذي أنزلته إليك في كتابي، كما:- ١٢١٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فاحكم بينهم بما أنزل الله"، يقول: بحدود الله="ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق". ١٢١٢٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن عامر، عن مسروق: أنه كان يحلف اليهوديَّ والنصراني بالله، ثم قرأ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ﴾ [سورة المائدة: ٤٩] ، [[في المخطوطة: "ثم قرأ: فإن جاءوك فاحكم بينهم بما أنزل الله"، وصواب الاستدلال في هذه الآية من المائدة، أما آية المائدة الأخرى (٤٢) ، فتلاوتها: "فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم"، وليس فيها الدليل الذي تطلبه في استحلافهم بالله عز وجل.]] وأنزل الله: ﴿أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [سورة الأنعام: ١٥١] . * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لكل قوم منكم جعلنا شرعةً. [[انظر تفسير"كل" فيما سلف ٣: ١٩٣/٦: ٢٠٩/٨: ٢٦٩.]] * * * و"الشرعة" هي"الشريعة" بعينها، تجمع"الشرعة""شِرَعًا"، [[في المطبوعة والمخطوطة: "تجمع الشرعة شراعًا"، وهذا خطأ من الناسخ لاشك فيه، فإن جمع"فعلة" (بكسر فسكون) إنما يكسر على"فعل" (بكسر ففتح) ، في الصحيح وفي غيره مثل"كسر"، و"لحى". وقد جاء في"فعلة""فعال"، وهو قليل، كجمع"لقحة" و"لقاح"، و"حقة"، و"حقاق". فجائز أن يكون"شراع" جمعًا عزيزًا للشرعة، ولكن الأقرب في مثل ذلك أن يذكر الجمع الذي أطبق عليه القياس.]] "والشريعة""شرائع". ولو جمعت"الشرعة""شرائع"، كان صوابًا، لأن معناها ومعنى"الشريعة" واحد، فيردّها عند الجمع إلى لفظ نظيرها. وكل ما شرعت فيه من شيء فهو"شريعة". ومن ذلك قيل: لشريعة الماء"شريعة"، لأنه يُشْرع منها إلى الماء. ومنه سميت شرائع الإسلام"شرائع"، لشروع أهله فيه. ومنه قيل للقوم إذا تساووا في الشيء:"هم شَرَعٌ"، سواءٌ. * * * وأما"المنهاج"، فإنّ أصله: الطريقُ البيِّن الواضح، يقال منه:"هو طريق نَهْجٌ، وَمنهْجٌ"، بيِّنٌ، كما قال الراجز: [[كأنه راجز من بني العنبر بن عمرو بن تميم.]] مَنْ يكُ فِي شَكٍّ فَهذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رَوَاءٌ وَطَرِيقٌ نَهْجُ [[مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٦٨، ومعجم ما استعجم: ١٠٢٧، واللسان (روي) ، وروايتهم جميعًا: "من يك ذا شك". ولكن هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة. و"فلج" (بفتح فسكون) : ماءه لبني العنبر بن عمرو بن تميم، يكثر ذكره في شعر بني تميم، ويمتدحون ماءه، قال بعض الأعراب: أَلا شَرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ مُزْنٍ عَلَى الصَّفَا ... حَدِيثَهُ عَهْد بالسَّحَاب المُسَخَّرِ إلَى رَصَفٍ مِنْ بَطْنِ فَلْجٍ، كأَنَّهَا ... إذَا ذُقْتَهَا بَيُّوتَةً مَاءُ سُكَّرِ و"ماء رواء" (بفتح الراء) : الماء العذب الذي فيه للواردين ري.]] ثم يستعمل في كل شيء كان بينًا واضحًا سهلا. * * * فمعنى الكلام: لكل قوم منكم جعلنا طريقًا إلى الحق يؤمُّه، وسبيلا واضحًا يعمل به. * * * ثم اختلف أهل التأويل في المعنيِّ بقوله:"لكل جعلنا منكم". فقال بعضهم: عنى بذلك أهلَ الملل المختلفة، أي: أن الله جعل لكل مِلّةٍ شريعة ومنهاجًا. * ذكر من قال ذلك: ١٢١٢٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يقول: سبيلا وسُنّة. والسنن مختلفة: للتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللقرآن شريعة، يحلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرِّم ما يشاء بلاءً، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. ولكن الدين الواحد الذي لا يقبل غيره: التوحيدُ والإخلاصُ لله، الذي جاءت به الرسل. ١٢١٢٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: الدينُ واحد، والشريعةُ مختلفة. ١٢١٢٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: الإيمان منذُ بَعث الله تعالى ذكره آدم ﷺ: شهادةُ أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء من عند الله، لكلّ قوم ما جاءَهم من شرعة أو منهاج، فلا يكون المقرُّ تاركًا، ولكنه مُطِيع. [[الأثر: ١٢١٢٨-"عبد الله بن هاشم"، لم أعرف من يكون. وقد مضى في الإسنادين رقم: ٧٣٢٩، ٧٩٣٨، في مثل هذا الإسناد نفسه. و"سيف بن عمر التميمي"، مضى برقم: ٧٣٢٩، ٧٩٣٨، وهو ساقط الرواية. وكان في المطبوعة هنا أيضا، كما في الإسنادين المذكورين: "سيف بن عمرو"، وهو خطأ محض.]] * * * وقال آخرون: بل عنى بذلك أمَّةَ محمد ﷺ. وقالوا: إنما معنى الكلام: قد جعلنا الكتاب الذي أنزلناه إلى نبينا محمدٍ ﷺ، أيها الناس، لكُلِّكم= أي لكل من دخل في الإسلام وأقرّ بمحمد ﷺ أنه لي نبيٌّ= شرعةً ومنهاجا. * ذكر من قال ذلك: ١٢١٢٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" قال: سنة، ="ومنهاجًا"، السبيل="لكلكم"، من دخل في دين محمد ﷺ، فقد جعل الله له شرعة ومنهاجًا. يقول: القرآن، هو له شرعة ومنهاج. * * * قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: لكل أهل ملة منكم، أيها الأمم جعلنا شِرعةً ومنهاجًا. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ ولو كان عنى بقوله:"لكل جعلنا منكم"، أمة محمد، وهم أمّة واحدةٌ، لم يكن لقوله:"ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة"، وقد فعل ذلك فجعلهم أمة واحدة= معنىً مفهوم. ولكن معنى ذلك، على ما جرى به الخطاب من الله لنبيه محمد ﷺ: أنه ذكر ما كتب على بني إسرائيل في التوراة، وتقدم إليهم بالعمل بما فيها، ثم ذكر أنه قفَّي بعيسى ابن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بَعثه إليه بالعمل بما فيه. ثم ذكر نبيَّنا محمدًا ﷺ، وأخبره أنه أنزل إليه الكتابَ مصدِّقًا لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أنزل إليه فيه دون ما في سائر الكتب غيره= وأعلمه أنه قد جعل له ولأمته شريعةً غيرَ شرائع الأنبياء والأمم قبلَه الذين قصَّ عليهم قصصَهم، وإن كان دينه ودينهم- في توحيد الله، والإقرار بما جاءهم به من عنده، والانتهاء إلى أمره ونهيه- واحدًا، فهم مختلفو الأحوال فيما شرع لكم واحد منهم ولأمته فيما أحلّ لهم وحرَّم عليهم. * * * وبنحو الذي قلنا في"الشرعة" و"المنهاج" من التأويل، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ١٢١٣٠- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" قال: سنةً وسبيلا. ١٢١٣١ - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. ١٢١٣٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان وإسرائيل وأبيه، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. ١٢١٣٣ - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن أبي سنان، عن أبي إسحاق، عن يحيى بن وثَّاب قال: سألت ابن عباس عن قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. [[الأثر: ١٢١٣٣-"أبو يحيى الرازي "أو"أبو يحيى العبدي" هو: "إسحق بن سلمان الرازي"، ثقة. مضى برقم: ٦٤٥٦. و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان البرجمي". روى عن أبي إسحق السبيعي، وروى عنه إسحق بن سليمان أبو يحيى الرازي. مضى برقم: ١٧٥، ١١٢٤٠. وكان في المطبوعة: "أبو شيبان"، وهو خطأ صرف. و"يحيى بن وثاب الأسدي" المقرئ. روى عن ابن عمر، وابن عباس. وروى عنه أبو إسحق السبيعي. قال ابن سعد: "كان ثقة قليل الحديث صاحب قرآن". ومضى برقم: ١١٤٨٨.]] ١٢١٣٤ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"شرعة ومنهاجًا"، قال: سنة وسبيلا. ١٢١٣٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني تميم، عن ابن عباس، بمثله. ١٢١٣٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس، مثله. ١٢١٣٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا" يعني: سبيلا وسنةً. ١٢١٣٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين قال: سمعت الحسن يقول:"الشرعة"، السنة. ١٢١٣٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد قال: سنة وسبيلا. [[الأثر: ١٢١٣٩-"أبو يحيى القتات الكناني"، مختلف في اسمه. وهو ضعيف متكلم فيه. مترجم في التهذيب.]] ١٢١٤٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"شرعة ومنهاجًا"، قال:"الشرعة"، السنة="ومنهاجًا"، قال: السبيل. ١٢١٤١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه. ١٢١٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة. ١٢١٤٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحوضي قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق قال: سمعت رجلا من بني تميم، عن ابن عباس، بنحوه. [[الأثر: ١٢١٤٣-"الحوضي" هو"حفص بن عمر بن الحارث بن سخبرة النمري" أبو عمر الحوضي، ثقة ثبت متقن. مضى برقم: ١١٤٤٩.]] ١٢١٤٤ - حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة. ١٢١٤٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: السنَّة والسبيل. ١٢١٤٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا"، يقول: سبيلا وسنة. ١٢١٤٧ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"شرعة ومنهاجًا"، قال: سبيلا وسنةً. * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربُّكم لجعل شرائعكم واحدة، ولم يجعل لكل أمة شريعةً ومنهاجًا غيرَ شرائع الأمم الأخر ومنهاجهم، فكنتم تكونون أمة واحدةً لا تختلف شرائعكم ومنهاجكم، ولكنه تعالى ذكره يعلم ذلك، فخالف بين شرائعكم ليختبركم، فيعرف المطيع منكم من العاصي، والعاملَ بما أمره في الكتاب الذي أنزله إلى نبيِّه ﷺ من المخالف. * * * و"الابتلاء": هو الاختيار، وقد أبنتُ ذلك بشواهده فيما مضى قبلُ. [[انظر تفسير"الابتلاء" فيما سلف ٢: ٤٩/٣: ٧/٧: ٥٧٤، تعليق: ١، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "وقد ثبت ذلك"، وليس بشيء، أخطأ الناسخ، صوابها ما أثبت.]] * * * وقوله:"فيما آتاكم"، يعني: فيما أنزل عليكم من الكتب، كما:- ١٢١٤٨ - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، ثني حجاح، عن ابن جريج: ﴿ولكن ليبلوكم فيما آتاكم﴾ قال عبد الله بن كثير: لا أعلمه إلا قال، ليبلوكم فيما آتاكم من الكتب. * * * فإن قال قائل: وكيف قال:"ليبلوكم فيما آتاكم"، ومن المخاطب بذلك؟ وقد ذكرت أنّ المعنيَّ بقوله:"لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا" نبيُّنا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممِهم، والذين قبل نبيّنا ﷺ على حِدَةٍ؟ [[كانت هذه الجملة في المطبوعة: "وقد ذكرت أن المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا. لكل نبي من الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم الذين قبل نبينا ﷺ، والمخاطب النبي وحده". غير ما في المخطوطة، وحذف منه وزاد فيه. وفي المخطوطة: "وقد ذكرت أن المعنى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا نبيا مع الأنبياء الذين مضوا قبله وأممهم، والذين قبل نبينا ﷺ حده". وهو سياق لا يستقيم، ورجحت أن الناسخ أسقط"قوله" قبل الآيه، وأسقط"على" من قوله: "على حدة". لأن مراد أبي جعفر أن الخطاب للنبي ﷺ، ولا يدخل في خطابه خطاب الأنبياء الذين قبله هم وأممهم. وأما الذي في المطبوعة، فهو تصرف جاوز حده.]] قيل: إن الخطاب وإن كان لنبينا ﷺ: فإنه قد أريد به الخبر عن الأنبياء قبله وأممهم. ولكن العرب من شأنها إذا خاطبت إنسانًا وضمَّت إليه غائبًا، فأرادت الخبر عنه، أن تغلِّب المخاطب، فيخرج الخبرُ عنهما على وجه الخطاب، فلذلك قال تعالى ذكره:"لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا". * * * القول في تأويل قوله عز ذكره: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) ﴾ قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبادروا أيها الناس، إلى الصالحات من الأعمال، والقُرَب إلى ربكم، بإدمان العمل بما في كتابكم الذي أنزله إلى نبيكم، فإنه إنما أنزله امتحانًا لكم وابتلاءً، ليتبين المحسن منكم من المسيء، فيجازي جميعكم على عمله جزاءَه عند مصيركم إليه، فإن إليه مصيركم جميعًا، فيخبر كلَّ فريق منكم بما كان يخالف فيه الفرقَ الأخرى، فيفْصَل بينهم بفصل القضاء، وتُبِينُ المحقَّ مجازاته إياه بجناته، [[في المطبوعة: "ويبين المحق بمجازاته إياه ... "، أساء قراءة المخطوطة، فتصرف فيها.]] من المسيء بعقابه إياه بالنار، فيتبين حينئذ كل حزب عيانًا، المحقَّ منهم من المبطل. [[انظر تفسير"استبق" فيما سلف ٣: ١٩٦= وتفسير"الخيرات" فيما سلف ٣: ١٩٦= وتفسير"المراجع" فيما سلف ٦: ٤٦٤= وتفسير"أنبأ" و"النبأ" فيما سلف ١: ٤٨٨، ٤٨٩/٦: ٢٥٩، ٤٠٤/١٠: ٢٠١]] * * * فإن قال قائل: أو لم ينبئنا ربُّنا في الدنيا قبل مرجعنا إليه ما نحن فيه مختلفون؟ قيل: إنه بيَّن ذلك في الدنيا بالرسل والأدلة والحجج، دون الثواب والعقاب عيانًا، فمصدق بذلك ومكذِّب. وأما عند المرجع إليه، فإنه ينبئهم بذلك بالمجازاة التي لا يشكُّون معها في معرفة المحق والمبطل، ولا يقدرون على إدخال اللبس معها على أنفسهم. فكذلك خبرُه تعالى ذكره أنه ينبئنا عند المرجع إليه بما كنَّا فيه نختلف في الدنيا. وإنما معنى ذلك: إلى الله مرجعكم جميعًا، فتعرفون المحقَّ حينئذ من المبطل منكم، كما:- ١٢١٤٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أبي سنان قال: سمعت الضحاك يقول:"فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعًا"، قال: أمة محمد ﷺ، البرُّ والفاجر. [[الأثر: ١٢١٤٩-"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان"، مضى قريبا برقم: ١٢١٣٣.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب