الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم"، ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، المحتكمين إلى الطاغوت، أن يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك = أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها [[انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: ٨: ١٧٠، تعليق: ١، والمراجع هناك.]] ="ما فعلوه"، يقول: ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله، طاعة لله ولرسوله ="إلا قليل منهم". * * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٩٩١٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم"، يهود يعني = أو كلمة تشبهها = والعربَ، [[في المطبوعة: "هم يهود يعني والعرب". ومثلها في الدر المنثور ٢: ١٨١، وهو تصرف من السيوطي، وتبعه الناشر الأول. وذلك أنه شك في معنى"أو كلمة تشبهها" فحذفها، وزاد في أول الكلام"هم". ولكن قوله: "أو كلمة تشبهها" أي: تشبه"يعني" في معناها، كقولك "يريد" أو "أراد".]] كما أمر أصحاب موسى عليه السلام. ٩٩١٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم"، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضًا بالخناجر، لم يفعلوا إلا قليل منهم. ٩٩٢٠ - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا! فقال ثابت: والله لو كُتب علينا أن اقتلوا أنفسكم، لقتلنا أنفسنا! أنزل الله في هذا:"ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا". ٩٩٢١ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي قال: لما نزلت:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا! فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: إنّ من أمتي لَرِجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرَّواسي. * * * واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله:"إلا قليل منهم". فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع"قليل"، لأنه جعل بدلا من الأسماء المضمرة في قوله:"ما فعلوه"، لأن الفعل لهم. * * * وقال بعض نحويي الكوفة: إنما رفع على نية التكرير، كأن معناه: ما فعلوه، ما فعله إلا قليل منهم، كما قال عمرو بن معد يكرب: [[وأصح، نسبته إلى حضرمي بن عامر الأسدي، وينسب إلى سوار بن المضرب، وهو خطأ.]] وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ، ... لَعمْرُ أَبِيك إلا الفَرْقَدَانِ [[سيبويه ١: ٣٧١ / مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ١٣١ / البيان والتبيين ١: ٢٢٨ / حماسة البحتري: ١٥١ / الكامل ٢: ٢٩٨ / المؤتلف والمختلف: ٨٥ / الخزانة ٢: ٥٢= ٤: ٧٩ / شرح شواهد المغني: ٧٨. هذا ولم أجد أبيات عمرو بن معد يكرب، وأما شعر حضرمي، فقبل البيت، وهو شعر جيد: وَذِي فَجْعٍ عَزَفتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... حِذَارَ الشَّامتين، وَقَدْ شَجَانِي أَخِي ثِقَةٍ، إذَا مَا اللَّيْلُ أَفْضَى ... إلَيَّ بِمُؤْيِدٍ حُبْلَى كَفَانِي قَطَعْتُ قَرِينَتِي عَنْهُ فأغْنَى ... غناهُ، فَلَنْ أَراهُ وَلَنْ يَرَانِي وكُلُّ قَرِينَةٍ قُرِنَتْ بِأُخْرى، ... وَلَوْ ضَنَّتْ بِهَا، سَتَفَرَّقَانِ وكُلُّ أَخٍ...................... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وَكُلُّ إِجَابَتي إِيَّاهُ أَنِّي ... عَطَفْتُ عَلَيْهِ خَوَّار الْعِنَانِ وقوله: "وذي فجع"، أي: صديق يورث فراقه الفجيعة، ويروى"وذى لطف"، ويروي"وذي فخم"، يعني: ذي كبرياء واستعلاء. و"عزف نفسه عن الشيء": صرفها. و"شجاني": أحزنني. و"المؤيد" الداهية العظيمة."حبلى" تلد شرًا بعد شر. و"القرينة" النفس التي تقارن صاحبها لا تفارقه، حتى يموت. و"خوار العنان" صفة الفرس إذا كان سهل المعطف لينه كثير الجري، يعني، أنه ينصره في الحرب حين يستغيث به.]] قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: رفع"القليل" بالمعنى الذي دلَّ عليه قوله:"ما فعلوه إلا قليل منهم". وذلك أن معنى الكلام: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم = فقيل:"ما فعلوه" على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ثم استثنى"القليل"، فرفع بالمعنى الذي ذكرنا، إذ كان الفعل منفيًّا عنه. * * * وهي في مصاحف أهل الشام: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ﴾ . وإذا قرئ كذلك، فلا مرْزِئَةَ على قارئه في إعرابه، [["المرزئة" (بفتح الميم، وسكون الراء، وكسر الزاي) ، مثل الرزء، والرزيئة: وهو المصيبة والعناء والضرر والنقص، وكل ما يثقل عليك، عافاك الله. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "فلا مرد به على قارئه"، وهو شيء لا يفهم ولا يقال!!]] لأنه المعروف في كلام العرب، إذ كان الفعل مشغولا بما فيه كنايةُ مَنْ قد جرى ذكره، [["الكناية" الضمير، كما سلف مرارًا كثيرة. ثم انظر مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن ١: ١٣١.]] ثم استثني منهم القليل. * * * القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) ﴾ قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدُّون عنك صدودًا ="فعلوا ما يوعظون به"، يعني: ما يذكّرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره [[انظر تفسير"الوعظ"، فيما سلف ص: ٢٩٩، تعليق: ٤، والمراجع هناك.]] ="لكان خيرًا لهم"، في عاجل دنياهم، وآجل معادهم ="وأشد تثبيتًا"، وأثبت لهم في أمورهم، وأقوم لهم عليها. [[انظر تفسير"التثبيت" فيما سلف ٥: ٣٥٤، ٥٣١ / ٧: ٢٧٢، ٢٧٣. ولو قال: "وأقوى لهم عليها"، لكان ذلك أرجح عندي، وكلتاهما صواب.]] وذلك أن المنافق يعمل على شك، فعمله يذهب باطلا وعناؤه يضمحلّ فيصير هباء، وهو بشكه يعمل على وناءٍ وضعف. [["الونا" و"الوناء": الفترة والكلال والإعياء والضعف.]] ولو عمل على بصيرة، لاكتسب بعمله أجرًا، ولكان له عند الله ذخرًا، وكان على عمله الذي يعمل أقوى، ولنفسه أشدَّ تثبيتًا، لإيمانه بوعد الله على طاعته، وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله:"وأشد تثبيتًا"، تصديقًا، كما:- ٩٩٢٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا"، قال: تصديقًا. * * * = لأنه إذا كان مصدّقًا، كان لنفسه أشد تثبيتًا، ولعزمه فيه أشدّ تصحيحًا. وهو نظير قوله جل ثناؤه: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [سورة البقرة: ٢٦٥] . وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه، بما فيه كفاية من إعادته، [[انظر تفسير الآية فيما سلف ٥: ٥٣٠ - ٥٣٤.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب