الباحث القرآني

القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم" = وإن الله لا يغفر أن يشرك به، فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام. * * * وإذ كان ذلك معنى الكلام، فإن قوله:"أن يشرك به"، في موضع نصب بوقوع"يغفر" عليها [["الوقوع" تعدى الفعل إلى مفعول، كما سلف مرارًا كثيرة.]] = وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرًا. وذلك أن يوجَّه معناه إلى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، على تأويل الجزاء، كأنه قيل: إن الله لا يغفر ذنبًا مع شرك، أو عن شرك. [[في معاني القرآن للفراء ١: ٢٧٢: "مع شرك، ولا عن شرك"، والصواب في التفسير.]] وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون"أن" في موضع خفض في قول بعض أهل العربية. [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ٢٧٢ فهذه مقالته.]] * * * وذكر أن هذه الآية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت: ﴿قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الزمر: ٥٣] . ذكر الخبر بذلك: ٩٧٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثني مُجَبَّر، عن عبد الله بن عمر: أنه قال: لما نزلت: ﴿يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية، قام رجل فقال: والشرك، يا نبيَّ الله. فكره ذلك النبي ﷺ فقال:"إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما". [[الحديث: ٩٧٣٠ - ابن أبي جعفر: هو عبد الله بن أبي جعفر الرازي: مضت ترجمته وترجمة أبيه في: ٧٠٣٠. الربيع: هو ابن أنس البكري. مضت ترجمته في: ٥٤٨٠. مجبر - بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الباء الموحدة المفتوحة، بوزن"محمد"-: هو ابن أخي عبد الله بن عمر. و"مجبر" لقبه، واسمه: "عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب". ذكره المصعب في نسب قريش، ص: ٣٥٦، وابن حزم في جمهرة الأنساب، ص: ١٤٦، والمشتبه للذهبي، ص: ٤٦٢. مترجم في التعجيل، ص: ٣٩٢ - ٣٩٣، وله ذكر فيه أيضًا في ترجمة ابنه"عبد الرحمن" ص: ٢٥٦ - ٢٥٧. وله رواية في المسند: ١٤٠٢، عن عثمان وطلحة. وأظنها رواية منقطعة، فإن طبقته أصغر من أن يدركهما. وله ذكر في الموطأ ص: ٣٩٧: "مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنه لقي رجلا من أهله يقال له المجبر، قد أفاض ولم يحلق ولم يقصر، جهل ذلك، فأمره عبد الله أن يرجع، فيحلق أو يقصر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض". ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهذا تابعي عرف شخصه، ولم يذكر بجرح، فأقل حالاته أن يكون حديثه حسنًا. والحديث نقله ابن كثير ٢: ٤٨١، عن هذا الموضع. ثم قال: "وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر". وذكره السيوطي ١: ١٦٩، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم. وسيأتي عقب هذا بإسناد ضعيف، لإبهام شيخ الطبري.]] ٩٧٣١ - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، قال: أخبرني مُجَبَّر، عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الآية: ﴿يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ﴾ الآية، قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله. فكره ذلك النبي، فقال:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء". ٩٧٣٢ - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا الهيثم بن جَمّاز قال، حدثنا بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي ﷺ لا نَشُك في قاتلِ النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرَّحم، حتى نزلت هذه الآية:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، فأمسكنا عن الشهادة. [[الحديث: ٩٧٣٢ - آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني. مضت ترجمته في: ١٨٧، الهيثم بن جماز البكاء، الحنفي البصري القاضي: ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين، والنسائي، وغيرهم. مترجم في لسان الميزان ٦: ٢٠٤ - ٢٠٥، والكبير للبخاري ٤ / ٢ / ٢١٦. وابن أبي حاتم ٤ / ٢ / ٨١، والضعفاء للنسائي، ص: ٣٠. و"جماز": بفتح الجيم وتشديد الميم وآخره زاي. ووقع في المخطوطة والمطبوعة"حماد"، وهو تصحيف. وكذلك وقع مصحفًا في التهذيب ١١: ١٠٠، عند ذكره بترجمة"الهيثم بن أبي الهيثم". بكر بن عبد الله المزني: تابعي ثقة معروف، أخرج له الجماعة. والحديث ذكره السيوطي ٢: ١٦٩، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، والبزار. ومعناه ثابت عن ابن عمر من روايات أخر: ففي الدر المنثور ٢: ١٦٩"أخرج ابن الضريس، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن عدي - بسند صحيح، عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا ﷺ: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقال: إني ادخرت دعوتي، شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورجونا". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ٥، وقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير حرب بن سريج، وهو ثقة". وفي مجمع الزوائد ١٠: ٢١٠ - ٢١١"عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا نبينا ﷺ يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقال: أخرت شفاعتي لأهل الكبائر يوم القيامة. رواه البزار، وإسناده جيد". وهو نحو الذي قبله. وفيه أيضًا روايات بهذا المعنى عن ابن عمر ١٠: ١٩٣. هذا، وكان في المخطوطة: "لا نشك في المؤمن، وآكل مال اليتيم": بينهما بياض وقبل"المؤمن" في أعلاه حرف"ط"، وهذا دال على أن النسخة التي نقل عنها كانت غير واضحة فأثبتنا ما جاء في الروايات الأخر.]] وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله. * * * القول في تأويل قوله: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (٤٨) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يشرك بالله" في عبادته غيره من خلقه ="فقد افترى إثما عظيما"، يقول: فقد اختلق إثما عظيمًا. [[انظر تفسير"افترى" فيما سلف ٦: ٢٩٢.]] وإنما جعله الله تعالى ذكره"مفتريًا"، لأنه قال زورًا وإفكًا بجحوده وحدانية الله، وإقراره بأن لله شريكًا من خلقه وصاحبة أو ولدًا. فقائل ذلك مُفترٍ. وكذلك كل كاذب، فهو مفترٍ في كذبه مختلقٌ له.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب