الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ (٦٢) أَأَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ (٦٣) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) ﴾ يقول تعالى ذكره: قال الطاغون الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم في هذه الآيات، وهم فيما ذُكر أبو جهل والوليد بن المُغيرة وذووهما: ﴿مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا﴾ يقول: ما بالنا لا نرى معنا في النار رجالا ﴿كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ﴾ يقول: كنا نعدهم في الدنيا من أشرارنا، وعنوا بذلك فيما ذُكر صُهَيْبا وخَبَّابا وبِلالا وسَلْمان. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني محمد، قال: ثنا أحمد، قال: ثنا أسباط، عن ليث، عن مجاهد، في قوله ﴿مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ﴾ قال: ذاك أبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة، وذكر أناسا صُهيبا وَعَمَّارًا وخبابا، كنَّا نعدّهم من الأشرار في الدنيا. ⁕ حدثنا أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا يذكر عن مجاهد في قوله ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ﴾ قال: قالوا: أين سَلْمان؟ أين خَبَّاب؟ أين بِلال؟. * * * وقوله ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا﴾ اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء المدينة والشام وبعض قرّاء الكوفة: ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ﴾ بفتح الألف من أتخذناهم، وقطعها على وجه الاستفهام، وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة، وبعض قرّاء مكة بوصل الألف من الأشرار:"اتخذناهم". وقد بيَّنا فيما مضى قبلُ، أن كل استفهام كان بمعنى التعجب والتوبيخ، فإن العرب تستفهم فيه أحيانا، وتُخرجه على وجه الخبر أحيانا. وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه بالوصل على غير وجه الاستفهام، لتقدّم الاستفهام قبل ذلك في قوله ﴿مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا﴾ فيصير قوله:"اتخذناهم" بالخبر أولى وإن كان للاستفهام وجه مفهوم لما وصفتُ قبل من أنه بمعنى التعجب. وإذ كان الصواب من القراءة في ذلك ما اخترنا لما وصفنا، فمعنى الكلام: وقال الطاغون: ما لنا لا نرى سَلْمان وبِلالا وخَبَّابا الذين كنَّا نعدّهم في الدنيا أشرارا، أتخذناهم فيها سُخريا نهزأ بهم فيها معنا اليوم في النار؟. وكان بعض أهل العلم بالعربية من أهل البصرة يقول: من كسر السين من السُّخْريّ، فإنه يريد به الهُزْء، يريد يسخر به، ومن ضمها فإنه يجعله من السُّخْرَة، يستسخِرونهم: يستذِلُّونهم، أزاغت عنهم أبصارنا وهم معنا. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ﴾ يقول: أهم في النار لا نعرف مكانهم؟. ⁕ حُدثت عن المحاربيّ، عن جويبر، عن الضحاك ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ﴾ قال: هم قوم كانوا يسخَرون من محمد وأصحابه، فانطلق به وبأصحابه إلى الجنة وذهب بهم إلى النار ف ﴿َقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَار أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ﴾ يقولون: أزاغت أبصارنا عنهم فلا ندري أين هم؟. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا﴾ قال: أخطأناهم ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ﴾ ولا نراهم؟. ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ﴿وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأشْرَارِ﴾ قال: فقدوا أهل الجنة ﴿أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا﴾ في الدنيا ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ﴾ وهم معنا في النار. * * * وقوله ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ﴾ يقول تعالى ذكره: إن هذا الذي أخبرتكم أيها الناس من الخبر عن تراجع أهل النار، ولعْن بعضهم بعضا، ودعاء بعضهم على بعض في النار لحق يقين، فلا تشكُّوا في ذلك، ولكن استيقنوه تخاصم أهل النار. * * * وقوله ﴿تَخَاصُمُ﴾ رد على قوله ﴿لَحَقٌّ﴾ ومعنى الكلام: إن تخاصم أهل النار الذي أخبرتكم به لحقّ. وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يوجه معنى قوله ﴿أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبْصَارُ﴾ إلى: بل زاغت عنهم. ⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ فقرأ: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وقرأ: ﴿يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ .. حتى بلغ: ﴿إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾ قال: إن كنتم تعبدوننا كما تقولون إن كنا عن عبادتكم لغافلين، ما كنا نسمع ولا نبصر، قال: وهذه الأصنام، قال: هذه خصومة أهل النار، وقرأ: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ قال: وضل عنهم يوم القيامة ما كانوا يفترون في الدنيا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب