الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا (١٤) ﴾ يعني تعالى ذكره بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ﴾ وإذ قال بعضهم: يا أهل يثرب، ويثرب: اسم أرض، فيقال: إن مدينة رسول الله ﷺ في ناحية من يثرب. * * * وقوله: ﴿لا مُقامَ لَكُمْ فارْجِعُوا﴾ بفتح الميم من مقام. يقول: لا مكان لكم، تقومون فيه، كما قال الشاعر: فأيِّي ما وأَيُّكَ كانَ شَرّا ... فَقيدَ إلى المَقامَةِ لا يَرَاها [[البيت لعباس بن مرداس، وقد سبق الاستشهاد به في (٢٠: ٦٦) قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (الورقة ١٩٣ - ب) : عند تفسير قوله تعالى: (لا مقام لكم) : مفتوحة الأولى. ومجازها: لا مكان لكم تقومون فيه. ومنه قوله: "فإني ما وأيك كان شرا ... " البيت.]] * * * قوله: ﴿فارْجِعُوا﴾ يقول: فارجعوا إلى منازلكم، أمرهم بالهرب من عسكر رسول الله ﷺ والفرار منه، وترك رسول الله ﷺ. وقيل: إن ذلك من قيل أوس بن قيظي ومن وافقه على رأيه. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثني يزيد بن رومان ﴿وَإذْ قَالتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أهل يَثْرِب ... ﴾ إلى ﴿فِرَارًا﴾ يقول: أوس بن قيظي ومن كان على ذلك من رأيه من قومه، والقراءة على فتح الميم من قوله: ﴿لا مَقَامَ لَكُمْ﴾ بمعنى: لا موضع قيام لكم، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القرّاء عليها. وذُكر عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قرأ ذلك ﴿لا مُقامَ لَكُمْ﴾ بضم الميم؛ يعني: لا إقامة لكم. * * * وقوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ يقول تعالى ذكره: ويستأذن بعضهم رسول الله ﷺ في الإذن بالانصراف عنه إلى منزله، ولكنه يريد الفرار والهرب من عسكر رسول الله ﷺ. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ﴿وَيَسْتأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيُّ ... ﴾ إلى قوله: ﴿إلا فِرَارًا﴾ قال: هم بنو حارثة، قالوا: بيوتنا مخلية نخشى عليها السرق. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ قال: نخشى عليها السرق. ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ وإنها مما يلي العدوّ، وإنا نخاف عليها السرّاق، فبعث النبيّ ﷺ، فلا يجد بها عدوّا، قال الله: ﴿إنْ يُرِيدُونَ إلا فِرَارًا﴾ يقول: إنما كان قولهم ذلك ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ إنما كان يريدون بذلك الفرار. ⁕ حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا عبيد الله بن حمران، قال: ثنا عبد السلام بن شدّاد أبو طالوت عن أبيه في هذه الآية ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِي بِعَوْرَةٍ﴾ قال: ضائعة. * * * وقوله: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِها﴾ يقول: ولو دخلت المدينة على هؤلاء القائلين ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ من أقطارها، يعني: من جوانبها ونواحيها، واحدها: قطر، وفيها لغة أخرى: قُتر، وأقتار، ومنه قول الراجز: إنْ شِئْتَ أنْ تدهن أو تمرا ... فَوَلِّهِنَّ قُتْرَكَ الأشَرَّا [[البيتان من مشطور الرجز. ولم أقف على قائلهما. والشاهد فيهما في قوله: "قترك" بضم فسكون بمعنى القطر، وهو الجانب والناحية. قال أبو عبيدة: "من أقطارها" أي من جوانبها ونواحيها. وواحدها قطر، وفي "اللسان: قتر" القتر: بضم فسكون، والفتر: بضمتين: الناحية والجانب لغة: في القطر، وهي: الأقتار. اهـ. وفي (اللسان: قطر) ، وفي التنزيل العزيز: (من أقطار السماوات والأرض) : أقطارها: نواحيها: واحدها قطر، وكذلك أقتراها، واحدها قتر. اهـ.]] * * * وقوله: ﴿ثُمَّ سُئِلوا الفِتْنَةَ﴾ يقول: ثم سئلوا الرجوع من الإيمان إلى الشرك ﴿لآتَوْها﴾ يقول: لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا. * * * وقوله: ﴿وَما تَلَبَّثُوا بها إلا يَسِيرًا﴾ يقول: وما احتبسوا عن إجابتهم إلى الشرك إلا يسيرا قليلا ولأسرعوا إلى ذلك. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ أي: لو دخل عليهم من نواحي المدينة ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ﴾ : أي: الشرك ﴿لآتَوْها﴾ يقول: لأعطوها. ﴿وَما تَلَبَّثُوا بِها إلا يَسِيرًا﴾ يقول: إلا أعطوه طيبة به أنفسهم ما يحتبسونه. ⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا﴾ يقول: لو دخلت المدينة عليهم من نواحيها ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتوْهَا﴾ سئلوا أن يكفروا لكفروا. قال: وهؤلاء المنافقون لو دخلت عليهم الجيوش، والذين يريدون قتالهم، ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا. قال: والفتنة: الكفر، وهي التي يقول الله: ﴿الفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾ أي: الكفر. يقول: يحملهم الخوف منهم، وخبث الفتنة التي هم عليها من النفاق على أن يكفروا به. واختلفت القرّاء في قراءة قوله: ﴿لآتَوْها﴾ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة وبعض قرّاء مكة: ﴿لأتَوْها﴾ بقصر الألف، بمعنى جاءوها. وقرأه بعض المكيين وعامة قرّاء الكوفة والبصرة: ﴿لآتَوْها﴾ بمدّ الألف، بمعنى: لأعطوها، لقوله: ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ﴾ . وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء. والمدّ أعجب القراءتين إليّ لما ذكرت، وإن كانت الأخرى جائزة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب