الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (٨) ﴾ يقول تعالى ذكره: هذا الذي يفعل ما وصفت لكم في هذه الآيات، هو ﴿عالم الغيب﴾ ، يعني عالم ما يغيب عن أبصاركم أيها الناس، فلا تبصرونه مما تكنه الصدور وتخفيه النفوس، وما لم يكن بعد مما هو كائن، ﴿والشهادة﴾ يعني: ما شاهدته الأبصار فأبصرته وعاينته وما هو موجود ﴿العَزِيزُ﴾ يقول: الشديد في انتقامه ممن كفر به، وأشرك معه غيره، وكذّب رسله ﴿الرَّحِيمُ﴾ بمن تاب من ضلالته، ورجع إلى الإيمان به وبرسوله، والعمل بطاعته، أن يعذّبه بعد التوبة. * * * وقوله: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلّ شَيْء خَلَقَهُ﴾ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قراء مكة والمدينة والبصرة ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ بسكون اللام. وقرأه بعض المدنيين وعامة الكوفيين ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ بفتح اللام. والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القرّاء صحيحتا المعنى، وذلك أن الله أحكم خلقه، وأحكم كل شيء خلَقه، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: أتقن كلّ شيء وأحكمه. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني العباس بن أبي طالب، قال: ثنا الحسين بن إبراهيم إشكاب [[في التاج (شكب) : إشكاب؛ لقب الحسين بن إبراهيم بن الحسن بن زعلان العامري، شيخ أبي بكر بن أبي الدنيا.]] قال: ثنا شريك، عن خَصيف عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ قال: أما إن است القرد ليست بحسنة، ولكن أحكم خلقها. ⁕ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبو النضر، قال: ثنا أبو سعيد المؤدّب، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقرؤها: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ قال: أما إن است القرد ليست بحسنة ولكنه أحكمها. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ قال: أتقن كلّ شيء خلقه. ⁕ حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ﴿أَحْسَن كُلَّ شَيْءٍ﴾ : أحصى كلّ شيء. وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذي حسن خلق كل شيء. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قوله: ﴿الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ حسن على نحو ما خلق. وذُكر عن الحجاج، عن ابن جُرَيج، عن الأعرج، عن مجاهد قال: هو مثل ﴿أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثم هَدَى﴾ قال: فلم يجعل خلق البهائم في خلق الناس، ولا خلق الناس في خلق البهائم ولكن خلق كلّ شيء فقدّره تقديرا. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعلم كل شيء خلقه، كأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى أنه ألهم خلقه ما يحتاجون إليه، وأن قوله: ﴿أحْسَنَ﴾ إنما هو من قول القائل: فلان يحسن كذا، إذا كان يعلمه. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا أبي، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ قال: أعطى كلّ شيء خلقه، قال: الإنسان إلى الإنسان، والفرس للفرس، والحمار للحمار وعلى هذا القول الخَلْق والكلّ منصوبان بوقوع أحسن عليهما. وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب على قراءة من قرأه: ﴿الَّذِين أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ﴾ بفتح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن؛ لأنه لا معنى لذلك إذ قرئ كذلك إلا أحد وجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان، أو معنى التحسين الذي هو في معنى الجمال والحُسن، فلما كان في خلقه ما لا يشكّ في قُبحه وسماجته، علم أنه لم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته، وأما على القراءة الأخرى التي هي بتسكين اللام، فإن أولى تأويلاته به قول من قال: معنى ذلك: أعلم وألهم كلّ شيء خلقه، هو أحسنهم، كما قال: (الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) ؛ لأن ذلك أظهر معانيه. وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه بمعنى: الذي أحسن خلق كلّ شيء، فإنه جعل الخلق نصبا بمعنى التفسير، كأنه قال: الذي أحسن كلّ شيء خلقا منه. وقد كان بعضهم يقول: هو من المقدّم الذي معناه التأخير، ويوجهه إلى أنه نظير قول الشاعر: وَظَعْنِي إلَيْكَ للَّيْل حِضْيَنْةِ أنَّنِي ... لِتِلْكَ إذَا هابَ الهِدَانُ فَعُولُ [[البيت في (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة ١٩٢ - أ) قال عند تفسير قوله تعالى: (الذي أحسن كل شيء خلقه) : مجازه: أحسن خلق كل شيء والعرب تفعل هذا، يقدمون ويؤخرون. قال: "وظعني إليك ... " البيت معناه: وظعني حين حضنني الليل إليك. وفي (اللسان: حضن) : وحضنا المفازة شقاها، والفلاة: ناحيتاها، وحضنا الليل: جانباه، وحضن الجبل ما يطيق به وحضنا الشيء: جانباه. والهدان بوزن كتاب: الأحمق الجافي الوخم الثقيل في الحرب. وفي حديث عثمان: جبانًا هدانا.]] يعني: وظعني حضني الليل إليك؛ ونظير قول الآخر: كأنَّ هِنْدًا ثناياها وَبهْجَتَهَا ... يَوْمَ الْتَقَيْنا عَلى أدْحالِ دَبَّاب [[البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة، (الورقة ١٩٢ - أ) عند تفسير قوله تعالى: (أحسن كل شيء خلقه) . بعد الشاهد السابق: "وظعني إليك ... " البيت. ثم قال: كأن ثنايا هند وبهجتها. وهو أيضا في "اللسان: دبب": قال: قال الأزهري: وبالخلصاء رمل يقال له: الدباب، وبحذائه دُحْلان كثيرة (بضم الدال) ومنه قول الشاعر: كَأَنَّ هِنْدًا ثَنَايَاهَا وَبَهْجَتَهَا ... لَمَّا الْتَقَيْنَا لَدَى أدْحَالِ دَبَّاب مَوْلِيَّةٌ أُنُفٌ جَادَ الرَّبِيعُ بِهَا ... عَلَى أبَارِقَ قدْ هَمَّتْ بِأَعْشَابِ والأدحال والدحلان: جمعا دحل، بالفتح، وهو ثقب ضيق فمه، ثم يتسع أسفله، حتى يمشي فيه.]] أي: كأن ثنايا هند وبهجتها. * * * وقوله: ﴿وَبَدأ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِين﴾ يقول تعالى ذكره: وبدأ خلق آدم من طين ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ﴾ يعني: ذريته ﴿من سلالة﴾ ، يقول: من الماء الذي انسل فخرج منه. وإنما يعني من إراقة من مائه، كما قال الشاعر: فجاءتْ بِه عَضْبَ الأدِيمِ غَضَنْفَرًا ... سُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ [[البيت: (مجاز القرآن لأبي عبيدة الورقة ١٦٢ - ب) عند قوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين) في سورة المؤمنين. (الجزء ١٨: ٨) فراجعه ثمة.]] * * * وقوله: ﴿مِنْ ماءٍ مَهِينٍ﴾ يقول: من نطفة ضعيفة رقيقة. وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة ﴿وَبَدأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طينٍ﴾ وهو خلق آدم، ثم جعل نسله: أي ذرّيته من سلالة من ماء مهين، والسلالة هي: الماء المهين الضعيف. ⁕ حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن أبي يحيى الأعرج، عن ابن عباس في قوله: ﴿مِنْ سُلالَةٍ﴾ قال: صفو الماء. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ﴿مِنْ ماءٍ مَهِينٍ﴾ قال: ضعيف نطفة الرجل، ومهين: فعيل من قول القائل: مهن فلان، وذلك إذا زلّ وضعف.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب