القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) ﴾
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل صالح لقومه من ثمود: أيترككم يا قوم ربكم في هذه الدنيا آمنين، لا تخافون شيئا؟. ﴿فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ يقول: في بساتين وعيون ماء. ﴿وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ يعني بالطلع: الكُفُرَّى.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله ﴿هَضِيمٌ﴾ فقال بعضهم: معناه اليانع النضيج.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ يقول: أينع وبلغ فهو هضيم.
وقال آخرون: بل هو المتهشم المتفتت.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ قال محمد بن عمرو في حديثه تهشم هشيما. وقال الحارث: تهشم تهشّما.
⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: سمعت عبد الكريم يقول: سمعت مجاهدا يقول في قوله: ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ قال: حين تطلع يقبض عليه فيهضمه.
قال ابن جُرَيج: قال مجاهد: إذا مسّ تهشّم وتفتَّت، قال: هو من الرطب هضيم تقبض عليه فتهضمه.
وقال آخرون: هو الرطب اللين.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا هناد، قال: ثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة قوله: ﴿وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ قال: الهضيم: الرطب اللين.
وقال آخرون: هو الراكب بعضه بعضا.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿طَلْعُهَا هَضِيمٌ﴾ إذا كثر حمل النخلة فركب بعضها بعضا، حتى نقص بعضها بعضا، فهو حينئذ هضيم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: الهضيم: هو المتكسر من لينه ورطوبته، وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه وتحيفه، فكذلك الهضم في الطلع، إنما هو التنقص منه من رطوبته ولينه إما بمسّ الأيدي، وإما بركوب بعضه بعضا، وأصله مفعول صرف إلى فعيل.
* * *
وقوله: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾
يقول تعالى ذكره: وتتخذون من الجبال بيوتا.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله ﴿فارهين﴾ فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: ﴿فارهين﴾ بمعنى: حاذقين بنحتها.
وقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة: "فَرِهِينَ"بغير ألف، بمعنى: أشرين بطرين.
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته، فقال بعضهم: معنى فارهين: حاذقين.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا أبو كريب، قال: ثنا عثام، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح وعبد الله بن شدّاد: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾ قال أحدهما: حاذقين، وقال الآخر: يتجبرون.
⁕ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا مروان، قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾ قال: حاذقين بنحتها.
⁕ حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ﴿فارهين﴾ يقول: حاذقين.
وقال آخرون: معنى فارهين: مستفرهين متجبرين.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفيان، عن السديّ، عن عبد الله بن شداد في قوله: "فَرِهِينَ"قال: يتجبرون.
قال أبو جعفر: والصواب: فارهين.
وقال آخرون ممن قرأه فارهين: معنى ذلك: كيسين.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿فارهين﴾ قال: كيسين.
⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك أنه قرأ ﴿فارهين﴾ قال: كيسين.
وقال آخرون: فرهين: أشرين.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله: ﴿وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ﴾ يقول: أشرين، ويقال: كيسين.
⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "بيوتا فرهين"قال: شرهين.
⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، بمثله.
وقال آخرون: معنى ذلك: أقوياء.
* ذكر من قال ذلك:
⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: " وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَرِهِينَ"قال: الفره: القويّ.
وقال آخرون في ذلك بما:-
⁕ حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة، في قوله: "فَرِهِينَ"قال: معجبين بصنيعكم. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأها ﴿فارهين﴾ وقراءة من قرأ "فَرِهِينَ"قراءتان معروفتان، مستفيضة القراءة بكل واحدة منهما في علماء القرّاء، فبأتيهما قرأ القارئ فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ ﴿فارهين﴾ : حاذقين بنحتها، متخيرين لمواضع نحتها، كيسين، من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ "فَرِهِينَ": مرحين أشرين. وقد يجوز أن يكون معنى فاره وفره واحدا، فيكون فاره مبنيا على بنائه، وأصله من فعل يفعل، ويكون فره صفة، كما يقال: فلان حاذق بهذا الأمر وحذق. ومن الفاره بمعنى المرح قول الشاعر عديّ بن وادع العوفي من الأزد:
لا أسْتَكِينُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ ... وَلَنْ تَرَانِي بِخَيْرٍ فارِهَ الطَّلَبِ [[البيت لعدي بن وادع الشاعر الأزدي الأعمى، (كما سماه صاحب معجم الشعراء ص ٢٥٢) ، وكما في مجاز القرآن لأبي عبيدة (مصورة الجامعة ص ١٧٣) قال (وتنحتون من الجبال بيوتًا فارهين) أي مرحين. قال عدي بن وادع العفوي من العفاة بن عمرو بن فهم من الأزد: لا أسْتَكِينُ إذَا مَا أزْمَةٌ أزَمَتْ ... وَلَنْ تَرَاني بِخَيْرٍ فَارِهَ اللَّبَبِ
أي مرح اللبب. قال: ويجوز: "فرهين" في معنى "فارهين".
أو هو ابن وادع العوفي، كما في (اللسان: فره) قال: الفاره: الحاذق بالشيء والفروهة والفراهة والفراهية: النشاط. وفره بالكسر: أشر وبطر، ورجل فره نشيط أشر. وفي التنزيل: (وتنحتون من الجبال بيوتًا فرهين) . فمن قرأه كذلك، فهو من هذا: شرهين بطرين. ومن قرأه: "فارهين"، فهو من فره بالضم. قال ابن برى عند هذا الموضع: قال ابن وادع العوفي: لا أستكين إذا ما أزمة أزمت ... ولن تراني بخير فاره الطلب
قال الفراء: معنى فارهين: حاذقين. اهـ. وأما "اللبب" في رواية أبي عبيدة، فلعلها الرواية الصحيحة. ومعناه: البال. يقال: إنه لرخى اللبب. وفي التهذيب: فلان في بال رخى، ولبب رخى: أي في سعة وخصب وأمن.]] أي مرح الطلب.
* * *
وقوله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾
يقول تعالى ذكره: فاتقوا عقاب الله أيها القوم على معصيتكم ربكم، وخلافكم أمره، وأطيعون في نصيحتي لكم، وإنذاري إياكم عقاب الله ترشدوا.
{"ayahs_start":144,"ayahs":["فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ","وَمَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَىٰ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ","أَتُتۡرَكُونَ فِی مَا هَـٰهُنَاۤ ءَامِنِینَ","فِی جَنَّـٰتࣲ وَعُیُونࣲ","وَزُرُوعࣲ وَنَخۡلࣲ طَلۡعُهَا هَضِیمࣱ","وَتَنۡحِتُونَ مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتࣰا فَـٰرِهِینَ","فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ"],"ayah":"فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ"}