الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا (٧٥) ﴾ يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين وصفت صفتهم من عبادي، وذلك من ابتداء قوله: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا﴾ ... إلى قوله: ﴿وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا﴾ ... الآية ﴿يُجْزَوْنَ﴾ يقول: يُثابون على أفعالهم هذه التي فعلوها في الدنيا ﴿الْغُرْفَةَ﴾ وهي منزلة من منازل الجنة رفيعة ﴿بِمَا صَبَرُوا﴾ يقول: بصبرهم على هذه الأفعال، ومقاساة شدتها. * * * وقوله: ﴿وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا﴾ اختلفت القرّاء في قراءته، فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة ﴿وَيُلَقَّوْنَ﴾ مضمومة الياء، مشدّدة القاف، بمعنى: وتتلقاهم الملائكة فيها بالتحية. وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة: "وَيَلْقَوْنَ"بفتح الياء، وتخفيف القاف. والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان في قَرَأة الأمصار بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءتين إليّ أن أقرأ بها "وَيَلْقَوْنَ فِيهَا"بفتح الياء، وتخفيف القاف. لأن العرب إذا قالت ذلك بالتشديد، قالت: فلان يُتَلَّقَّى بالسلام وبالخير ونحن نتلقاهم بالسلام، قرنته بالياء وقلما تقول: فلان يُلقَّى السلام، فكان وجه الكلام لو كان بالتشديد، أن يقال: ويُتَلَقَّوْنَ فيها بالتحية والسلام. وإنما اخترنا القراءة بذلك، كما تجيز أخذت بالخطام، وأخذت الخطام. وقد بيَّنا معنى التحية والسلام فيما مضى قبل، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٧٦) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (٧٧) ﴾ يقول تعالى ذكره: أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، خالدين في الغرفة، يعني أنهم ماكثون فيها، لابثون إلى غير أمد، حسنت تلك الغرفة قرارا لهم ومقاما. يقول: وإقامة. * * * وقوله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي﴾ يقول جلّ ثناؤه لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء الذين أرسلت إليهم: أيّ شيء يَعُدّكم، وأيّ شيء يصنع بكم ربي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئا، وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته، كما قال الشاعر: كأنَّ بِنَحْرِهِ وبمَنْكَبَيْهِ ... عَبِيرًا باتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ [[البيت لأبي زبيد الطائي يصف أسدًا (اللسان: عبأ) . قال: عبأ الطيب يعبؤه عبئًا: صنعه وخلطه، قال أبو زبيد يصف أسدًا: " كأن بنحره ... " البيت. ويروى: " بات يخبؤه ". وقال الفراء في معاني القرآن: وقوله: ﴿ما يعبأ بكم ربي﴾ : استفهام، أي ما يصنع بكم لولا دعاؤه إياكم إلى الإسلام؟ وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (ص ١٧٠) : ومنه قوله؛ ما عبأت بك شيئًا: أي ما عددتك شيئًا. اهـ.]] يقول: يهيئه ويعمله يعبؤُه عبا وعبوءا، ومنه قولهم: عَبَّأت الجيش بالتشديد والتخفيف فأنا أعبئه: أُهَيِّئُهُ والعبءُ: الثقل. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي﴾ يصنع لولا دعاؤكم. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي﴾ قال: يعبأ: يفعل. * * * وقوله: ﴿لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾ يقول: لولا عبادة من يعبده منكم، وطاعة من يطيعه منكم. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله: ﴿مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾ يقول: لولا إيمانكم، وأخبر الله الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حبَّبه إلى المؤمنين. ⁕ وحدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿لَوْلا دُعَاؤُكُمْ﴾ قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه. * * * وقوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ﴾ يقول تعالى ذكره لمشركي قريش قوم رسول الله ﷺ: فقد كذبتم أيها القوم رسولكم الذي أرسل إليكم وخالفتم أمر ربكم الذي أمر بالتمسك به لو تمسكتم به، كان يعبأ بكم ربي، فسوف يكون تكذيبكم رسول ربكم، وخلافكم أمر بارئكم، عذابًا لكم ملازما، قتلا بالسيوف وهلاكا لكم مفنيا يلحق بعضكم بعضا، كما قال أبو ذُؤَيب الهُذَليّ: فَفاجأَهُ بِعادِيَةٍ لِزَامٍ ... كمَا يَتَفَجَّرُ الحَوْضُ اللَّقِيفُ [[البيت لأبي ذؤيب الهذلي (اللسان: لقف) . قال: وحوض لقف ولقيف: تهور من أسفله واتسع، ومنه قول أبي ذؤيب:* فلم تر غير عادية لزامًا * .. . البيت قال: ويقال: الملآن. والأول: هو الصحيح. قال: والعادية: القوم يعدون على أرجلهم أي: فحملتهم لزامًا، كأنهم لزموه، لا يفارقون ما هم فيه. اهـ. وقال في (لزم) : واللزام: الملازم قال أبو ذؤيب: (البيت كروايته في لقف) ثم فسره كما فسره هناك. قال: واللقيف: المتهور من أسفله. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة رقم ٢٦٠٥٩ ص ١٧٠) : لزام: أي كثيرة بعضها في أثر بعض وبهامشه: اللقيف المتهدم، الذي سقطت حجاره بعضها على بعض. اه.]] يعني باللزام: الكبير الذي يتبع بعضه بعضا، وباللقيف: المتساقط الحجارة المتهدّم، ففعل الله ذلك بهم، وصدقهم وعده، وقتلهم يوم بدر بأيدي أوليائه، وألحق بعضهم ببعض، فكان ذلك العذاب اللزام. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: أخبرني مولى لشقيق بن ثور أنه سمع سلمان أبا عبد الله، قال: صليت مع ابن الزُّبير فسمعته يقرأ: فقد كذب الكافرون. ⁕ حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سعيد بن أدهم السدوسيّ، قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة، عن عبد المجيد، قال: سمعت مسلم بن عمار، قال: سمعت ابن عباس يقرأ هذا الحرف: فقد كذب الكافرون ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ . ⁕ حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ﴿قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ يقول: كذب الكافرون أعداء الله. ⁕ حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود، قال: فسوف يلقون لزاما يوم بدر. ⁕ حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق. قال: قال عبد الرحمن: خمس قد مضين: الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم. ⁕ حدثني الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، قوله: ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ قال أُبَيِّ بن كعب: هو القتل يوم بدر. ⁕ حدثنا بن حميد، قال: ثنا سلمة، عن عمرو، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: اللزام: يوم بدر. ⁕ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ قال: هو يوم بدر. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ قال: يوم بدر. ⁕ حدثني القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. ⁕ قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن مَعْمر، عن منصور، عن سفيان، عن ابن مسعود، قال: اللزام، القتل يوم بدر. ⁕ حُدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: ﴿فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ الكفار كذبوا رسول الله ﷺ، وبما جاء به من عند الله، فسوف يكون لزاما، وهو يوم بدر. ⁕ حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله، قال: قد مضى اللزام، كان اللزام يوم بدر، أسروا سبعين، وقتلوا سبعين. وقال آخرون: معنى اللزام: القتال. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) قال: فسوف يكون قتالا اللزام: القتال. وقال آخرون: اللزام: الموت. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس ﴿فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا﴾ قال: موتا. وقال بعض أهل العلم بكلام العرب: معنى ذلك: فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شرّ. وقد بيَّنا الصواب من القول في ذلك. وللنصب في اللزامِ وجه آخر غير الذي قلناه، وهو أن يكون في قوله ﴿يَكُون﴾ مجهول، ثم ينصب اللزام على الخبر كما قيل: إذَا كان طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَقتالا وقد كان بعض من لا علم له بأقوال أهل العلم يقول في تأويل ذلك: قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ما تَدْعون من دونه من الآلهة والأنداد، وهذا قول لا معنى للتشاغل به لخروجه عن أقوال أهل العلم من أهل التأويل. آخر تفسير سورة الفرقان، والحمد لله وحده.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب