الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (٢٣) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا (٢٤) ﴾ يقول تعالى ذكره: ﴿وَقَدِمْنَا﴾ وعمدنا إلى ما عمل هؤلاء المجرمون ﴿مِنْ عَمَلِ﴾ ؛ ومنه قول الراجز: وَقَدِمَ الخَوَارِجُ الضُّلالُ ... إلَى عِبادِ رَبِّهِمْ وَقالُوا إنَّ دِمَاءَكُم لَنا حَلالُ [[الرجز من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة ١٦٧ مصورة الجامعة ٢٦٠٥٩) وقدم إلى الشيء: عمد إليه وقصده. وهو محل الشاهد عند المؤلف]] يعني بقوله: قدم: عمد. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿وَقَدِمْنَا﴾ قال: عَمَدنا. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله وقوله: ﴿فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ يقول: فجعلناه باطلا لأنهم لم يعملوه لله وإنما عملوه للشيطان. والهباء: هو الذي يرى كهيئة الغبار إذا دخل ضوء الشمس من كوّة يحسبه الناظر غبارًا ليس بشيء تقبض عليه الأيدي ولا تمسه، ولا يرى ذلك في الظل. واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ قال: الغبار الذي يكون في الشمس. ⁕ حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، في قوله: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ قال: الشعاع في كوّة أحدهم إن ذهب يقبض عليه لم يستطع. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ قال: شعاع الشمس من الكوّة. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله. ⁕ حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الحسن، في قوله: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ قال: ما رأيت شيئا يدخل البيت من الشمس تدخله من الكوّة، فهو الهباء. وقال آخرون: بل هو ما تسفيه الرياح من التراب، وتذروه من حطام الأشجار، ونحو ذلك. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ قال: ما تسفي الريح تَبُثُّهُ. ⁕ حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ قال: هو ما تذرو الريح من حطام هذا الشجر. ⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ قال: الهباء: الغبار. وقال آخرون: هو الماء المهراق. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني علي، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: ﴿هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ يقال: الماء المهراق. وقوله جلّ ثناؤه: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ يقول تعالى ذكره: أهل الجنة يوم القيامة خير مستقرّا، وهو الموضع الذي يستقرّون فيه من منازلهم في الجنة من مستقرّ هؤلاء المشركين الذين يفتخرون بأموالهم، وما أوتوا من عرض هذه الدنيا في الدنيا، وأحسن منهم فيها مقيلا. فإن قال قائل: وهل في الجنة قائلة؟ فيقال: ﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ فيها؟ قيل: معنى ذلك: وأحسن فيها قرارا في أوقات قائلتهم في الدنيا، وذلك أنه ذكر أن أهل الجنة لا يمرّ فيهم في الآخرة إلا قدر ميقات النهار من أوّله إلى وقت القائلة، حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة، فذلك معنى قوله: ﴿وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ . * ذكر الرواية عمن قال ذلك: ⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ يقول: قالوا في الغرف في الجنة، وكان حسابهم أن عرضوا على ربهم عرضة واحدة، وذلك الحساب اليسير، وهو مثل قوله: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ . ⁕ حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، في قوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ قال: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس يوم القيامة في نصف النهار، فيقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ قال: لم ينتصف النهار حتى يقضي الله بينهم، فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. قال: وفي قراءة ابن مسعود: ﴿ثُمَّ إِنَّ مَقِيلَهُمْ لإلى الجَحيم﴾ . ⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ قال: قال ابن عباس: كان الحساب من ذلك في أوّله، وقال القوم حين قالوا في منازلهم من الجنة، وقرأ ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ . ⁕ حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا عمرو بن الحارث أن سعيدًا الصوّاف حدثه أنه بلغه أن يوم القيامة يقضي على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس، وأنهم يقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، فذلك قول الله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ . قال أبو جعفر: وإنما قلنا: معنى ذلك: خير مستقرا في الجنة منهم في الدنيا، لأن الله تعالى ذكره عَمَّ بقوله: ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا﴾ جميع أحوال الجنة في الآخرة أنها خير في الاستقرار فيها، والقائلة من جميع أحوال أهل النار، ولم يخُصّ بذلك أنه خير من أحوالهم في النار دون الدنيا، ولا في الدنيا دون الآخرة، فالواجب أن يعمَّ كما عمّ ربنا جلّ ثناؤه، فيقال: أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقرًّا في الجنة من أهل النار في الدنيا والآخرة، وأحسن منهم مقيلا وإذا كان ذلك معناه، صحّ فساد قول من توهم أن تفضيل أهل الجنة بقول الله: ﴿خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا﴾ على غير الوجه المعروف من كلام الناس بينهم في قولهم: هذا خير من هذا، وهذا أحسن من هذا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب