الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧) ﴾ يقول الله تعالى ذكره: قال الله لموسى وهارون ﴿لا تخافا﴾ فرعون ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا﴾ أعينكما عليه، وأبصركما ﴿أسمَعُ﴾ ما يجري بينكما وبينه، فأفهمكما ما تحاورانه به ﴿وأرَى﴾ ما تفعلان ويفعل، لا يخفى عليّ من ذلك شيء ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولا لَهُ إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ . وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج ﴿قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ ما يحاوركما، فأوحي إليكما فتجاوبانه. * * * وقوله ﴿فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ﴾ أرسلنا إليك يأمرك أن ترسل معنا بني إسرائيل، فأرسلهم معنا ولا تعذّبهم بما تكلفهم من الأعمال الرديئة ﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ﴾ معجزة ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ على أنه أرسلنا إليك بذلك، إن أنت لم تصدّقنا فيما نقول لك أريناكها، ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ يقول: والسلامة لمن اتبع هدى الله، وهو بيانه، يقال: السلام على من اتبع الهدى، ولمن اتبع بمعنى واحد. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) ﴾ يقول تعالى ذكره لرسوله موسى وهارون: قولا لفرعون إنا قد أوحى إلينا ربك أن عذابه الذي لا نفاد له، ولا انقطاع على من كذب بما ندعوه إليه من توحيد الله وطاعته، وإجابة رسله ﴿وتولى﴾ يقول: وأدبر مُعرضا عما جئناه به من الحقّ. كما:- ⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله ﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ كذب بكتاب الله، وتولى عن طاعة الله. * * * وقوله ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ في هذا الكلام متروك، ترك ذكره استغناء بدلالة ما ذكر عليه عنه، وهو قوله: ﴿فأتياه﴾ فقالا له ما أمرهما به ربهما وأبلغاه رسالته، فقال فرعون لهما ﴿فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ فخاطب موسى وحده بقوله: يا موسى، وقد وجه الكلام قبل ذلك إلى موسى وأخيه. وإنما فعل ذلك كذلك، لأن المجاوبة إنما تكون من الواحد وإن كان الخطاب بالجماعة لا من الجميع، وذلك نظير قوله ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ وكان الذي يحمل الحوت واحد، وهو فتى موسى، يدل على ذلك قوله ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ . * * * وقوله ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ يقول تعالى ذكره: قال موسى له مجيبا: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه، يعني: نظير خلقه في الصورة والهيئة كالذكور من بني آدم. أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجا، وكالذكور من البهائم، أعطاها نظير خلقها، وفي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجا، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه، فيزوجه بالإناث من البهائم، ولا البهائم بالإناث من الإنس، ثم هداهم للمأتي الذي منه النسل والنماء كيف يأتيه، ولسائر منافعه من المطاعم والمشارب، وغير ذلك. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: بنحو الذي قلنا فيه. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ يقول: خلق لكل شيء زوجة، ثم هداه لمنكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه ومولده. ⁕ حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) يقول: أعطى كلّ دابة خلقها زوجا، ثم هدى للنكاح. وقال آخرون: معنى قوله ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ أنه هداهم إلى الألفة والاجتماع والمناكحة. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ يعني: هدى بعضهم إلى بعض، ألف بين قلوبهم وهداهم للتزويج أن يزوّج بعضهم بعضا. وقال آخرون: معنى ذلك: أعطى كلّ شيء صورته، وهي خلقه الذي خلقه به، ثم هداه لما يصلحه من الاحتيال للغذاء والمعاش. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، في قوله ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قال: أعطى كلّ شيء صورته ثم هدى كلّ شيء إلى معيشته. ⁕ حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قال: سوّى خلق كلّ دابة، ثم هداها لما يُصلحها، فعلَّمها إياه. ⁕ حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قال: سوّى خلق كلّ دابة ثم هداها لما يُصلحها وعلَّمها إياه، ولم يجعل الناس في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الناس، ولكن خلق كل شيء فقدّره تقديرا. ⁕ حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن حميد عن مجاهد ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ قال: هداه إلى حيلته ومعيشته. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أعطى كلّ شيء ما يُصلحه، ثم هداه له. * ذكر من قال ذلك: ⁕ حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قوله ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ قال: أعطى كل شيء ما يُصلحه. ثم هداه له. قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترنا في تأويل ذلك، لأنه جلّ ثناؤه أخبر أنه أعطى كلّ شيء خلقه، ولا يعطي المعطي نفسه، بل إنما يعطي ما هو غيره، لأن العطية تقتضي المعطي المُعطَى والعطية، ولا تكون العطيه هي المعْطَى، وإذا لم تكن هي هو، وكانت غيره، وكانت الصورة كلّ خلق بعض أجزائه، كان معلوما أنه إذا قيل: أعطى الإنسان صورته، إنما يعني أنه أعطى بعض المعاني التي به مع غيره دعي إنسانا، فكأن قائله قال: أعطى كلّ خلق نفسه، وليس ذلك إذا وجه إليه الكلام بالمعروف من معاني العطية، وإن كان قد يحتمله الكلام. فإذا كان ذلك كذلك، فالأصوب من معانيه أن يكون موجها إلى أن كلّ شيء أعطاه ربه مثل خلقه، فزوجه به، ثم هداه لما بيَّنا، ثم ترك ذكر مثل، وقيل ﴿أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ كما يقال: عبد الله مثل الأسد، ثم يحذف مثل، فيقول: عبد الله الأسد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب